عندما يتابع الباحث والقارئ تاريخ الأدب والثقافة فى مصر، لا بد أن يفسح مكانًا واسعًا ونظيفًا وخاليًا من أى عكارة للكاتب والمثقف والأديب الكبير يحيى حقى، هذا الزاهد الذى عاش كثيرًا لغيره، وعاش قليلًا لنفسه، رغم إبداعه الشامخ المتعدّد المترامى الظلال على كل عاشق للأدب والثقافة والفن، ولا أظن أن أحدًا من جيلى الذى عاش بعضًا من ستينيات القرن الماضى، وكل السبعينيات وما بعدها، لم يلفحه هواء «قنديل أم هاشم» الساخن والحاد والمثير لمشاعر وخواطر وأفكار ظلّت نائمة، حتى استيقظت على عزف كلمات يحيى حقى الحاسمة والشاردة والمربكة فى ذات الوقت. فى هذه الرواية الفريدة، كان جيلنا والجيل الذى سبقنا يكنّ احترامًا شديد الخصوصية ليحيى حقى، فهو لم يكن أديبًا وكاتبًا فقط، بل كان قائدًا وموجّهًا وصانعًا لمناخ ثقافى فى هدوء ودعة دون أى صخب أو إعلان عن مجهوداته الكبيرة فى صياغة مرحلة، وبناء أجيال، وأعتقد أن كل كتّاب الستينيات ذهبوا إلى مجلة «المجلة» التى كان حقى يرأس تحريرها، وكانوا يعرضون عليه كتاباتهم، وكان النشر فى مجلة «المجلة»، جواز مرور للكاتب، فيحيى حقى لم يكن يفوّت أى نص ركيك أو ضعيف أو حتى «نص نص»، ولكنه كان يستبقى الكاتب الذى يذهب بنصه إليه، ويقرؤه فى حضوره، ويناقشه فيه، ويضع بصيرته على مناطق الضعف إذا كانت موجودة، ويرشد الكاتب الشاب إلى تصحيح أو تعديل أو حذف جملة هنا أو جملة هناك، وكثيرون من الكتّاب حكوا تجاربهم مع العم يحيى حقى، وهذا هو الكاتب والمترجم والأديب الراقى محمد إبراهيم مبروك، يحكى قصته مع يحيى حقى، وهى حكاية مذهلة، وأعتقد أنها تركت أثرًا بعيدًا فى شخصية وأداء محمد مبروك -شفاه الله- إذ ذهب مبروك فى منتصف الستينيات بقصة قصيرة، وكان عنوانها غريبًا وهو «صوت صمت عزف نصف طائر»، وقرأ يحيى حقى القصة، واندهش كثيرًا، واقترح على محمد تغيير العنوان، ولكن مبروك رفض الاقتراح بأدب جم، وأعاد عليه يحيى الاقتراح، وقال له: «هل أنت متمسك بالعنوان، حتى لو عاق نشر القصة فى المجلة»، وأصرّ مبروك على التمسُّك بالعنوان ضاربًا بفكرة النشر فى المجلة عرض الحائط، وهنا استيقظت حواس يحيى حقى الأدبية العادلة، وأجاز نشر القصة، وهذا يدل على أن الكاتب والأديب الراقى يحيى حقى، أقوى من المسؤول ورئيس التحرير الذى يمنع ويمنح حسب متطلبات إدارية تافهة، فيحىى حقى الذى كتب: «صحّ النوم وخليها على الله، وكناسة الدكان، وتعال نذهب إلى الكونسرفوتوار، والفراش الشاغر، ودماء وطين، والبوسطجى، ويا ليل يا عين، وفجر القصة القصيرة، وعطر الأحباب»، وغيرها من كتب كثيرة نشرها بنفسه، أو جمعها تلميذه النجيب فؤاد دوّارة فى مجلدات وصلت ال28 مجلدًا من المقالات التى ملأ بها الصحف فى زمن الستينيات، وهى فصوص ذهبية من الأدب ذى القيمة العالية، يعرف جيدًا شخصية الأديب الحقيقى من الأديب المفتعل الذى يجعل من الأدب واجهة اجتماعية فارغة، وهناك كتاب جميل كتبه سكرتير تحرير المجلة سامى فريد عن أستاذه يحيى حقى، يسرد فيه قصصًا ومواقف مدهشة ليحيى حقى الذى كان يخالط الأدباء ويناقشهم وينزل معهم إلى الشارع، ولم يترفَّع عن مشاركة الأدباء همومهم، رغم أنه بدأ حياته مشتغلًا فى القضاء ثم فى الدبلوماسية المصرية، التى تجعل من المشتغلين بها أشخاصًا متعالين جدًّا على مَن يقابلهم فى كل المجالات، ولكن يحيى حقى لم يفعل كما فعل توفيق الحكيم، أى أنه لم يصعد إلى البرج العالى، ولم يختر الصحف والجرائد المنتقاة والتى كانت تدفع مكافآت مجزية، وأظن أنه لم يكن يفاصل فى ما يُصرف له من مكافآت، فمعظم كتاباته فى عقدى الخمسينيات والستينيات كانت فى صحف شبه شعبية، مثل «التعاون» و«المساء»، ولم يهرول كما فعل آخرون نحو «الأهرام» و«الأخبار»، ورغم ذلك كان يضمن قارئًا دائمًا يترقَّب ما يكتب، وينتظر الأثر الذى تتركه مقالاته، وهناك كتابات ليحيى حقى لا ينساها القارئ، عن شخصيات مثل المسرحى العظيم عباس علّام، الذى يكاد يكون مجهولًا، وكان يحب فنانة وممثلة يهودية اسمها فيكتوريا موسى، وكانت إحدى فاتنات العصر، ولكن مسألة يهوديتها هذه التى تركتها لتعتنق الإسلام فى ما بعد، طمست شهرتها فى ما بعد، وغاب اسمها من تاريخ المسرح، وكان عباس علّام يعشقها عشقًا رهيبًا، وكتب مخطوطًا لم يقدر له النشر تحت عنوان «عبد إيزيس»، وكان هذا المخطوط عبارة عن تطوحات عاطفية مهولة، ضمنها يحيى حقى دراسته الطويلة عن علام، وكان قد حصل على هذا المخطوط من صديقهما المشترك صلاح كامل، الذى كتب كتابًا كاملًا عن عباس علام، وهذه الدراسة التى كتبها حقى تدلنا على أن يحيى حقى كان ينتصر دومًا للمستبعد والمهجور والمغبون والمهدور فى ثقافتنا، وهذه الخصلة هى التى تميّزه وتجعله صانعًا للمعانى الحقيقية فى ثقافتنا المعاصرة، حتى لو كانت هذه المعانى لا تصبح سلعة جيدة فى السوق، لأنه لا يتعامل مع الثقافة بمنطق السوق، وتبعًا لذلك كانت اختياراته فى الترجمة كذلك منتقاة، ولا تجنح نحو المشهور والمرموق فى الثقافة الغربية، وربما يكون يحيى حقى غير معروف كمترجم، رغم مجهوداته العديدة فى الترجمة، ومن بين ترجماته رواية «لاعب الشطرنج» للكاتب استيفان زفايج، والتى كانت تنشرها جريدة «المساء». وفى 30 سبتمبر 1961 نشرت فصلًا منها، وهى رواية تحلل وتشرّح شخصية لاعب الشطرنج العالمى، وتقول عنه الرواية إنه مغرور وبجح وجاهل وغير مثقف، وكل نبوغه محدود فى رقعة الشطرنج التى أمامه، وفى سياق الرواية يحدث أن هذا اللاعب كان يركب سفينة تعبر المحيط، وحدث شىء غريب جدًّا، فقد تقدَّم راكب مجهول وصمد أمام هذا البطل فى اللعب، رغم اعترافه بأنه لم يلعب الشطرنج منذ خمسة وعشرين عامًا، وفى أثناء اللعب يحكى هذا الشخص المجهول حكايته المدهشة لبطل الشطرنج وبطل الرواية فى ذات الوقت، وتتسم ترجمة حقى -كما كتابته- بالسهل الممتنع والممتع والعميق، هذا الكاتب الذى يستحق منا ومن المؤسسات الثقافية المصرية كل تقدير، وعلى هذه المؤسسات أن تشترى حقوق نشر كتبه كاملة، لتصدرها مجددًا، حتى يعم نفعها على الأجيال الحديثة التى لا تدرك معنى يحيى حقّى.