كتب الدكتور على الراعى فى كتابه: «الكاريكاتير والأغانى والإذاعة» عن الأستاذ وفنان الكاريكاتير وصانع نهضة الكتب الأعظم، محيى الدين اللباد قائلا: «قالت لى رسوم اللباد: إن الفن يحقق للفنان ما يعجز عن الوصول إليه فى عالم الواقع، وقال اللباد نفسه: عندما كنت صغيرًا، كنا نسكن بقرب جامع السلطان حسن، وكان الترام الذى يمر فى الشارع الكبير -عندما يدور بجوار الجامع- يصدر صوتا عظيما، وكان سائق الترام عندى أعظم وأهم رجل فى العالم، لأنه يقود هذا الوحش العملاق المهيب، وظللت أتمنى أن أصبح سائق ترام عندما أكبر، وكبرت، لكننى لم أتمكن من أن أكون سائق ترام، بل ولم أستطع أن أتعلم قيادة السيارات.. لكننى تعلمت الرسم وأصبحت مجرد رسام». ويعلق د.الراعى على حكاية قوله مجرد رسام، وهو الذى يعلم تمامًا أن الرسم لا يمكن أن يكون مجرد شىء، فالرسم -كما قرر الراعى- قوة ضاغطة صانعة تهدف إلى تغيير العالم، ومن هذا المنطلق يصبح الرسم سلاحا وفنا معًا، ويستطرد الراعى فى إطلاق المسميات والصفات حتى يصل إلى إطلاق مصطلح «محيى اللباد.. رب الريشة والقلم»، بدلا من هذا الوصف الذى كان اللباد يصف نفسه به، أى وصف «صانع الكتب». ومهمة «صانع الكتب» لم تكن المهمة الوحيدة التى يقوم بها اللباد فى حياتنا الفنية والثقافية، رغم أنها ليست مهمة سهلة أو يسيرة، فاللباد هو إحدى العلامات المضيئة والعملاقة فى تطوير الكتاب، وصناعته، وأسهم فى إثراء هذا الفن بعبقرية فريدة، يشترك معه فيها مجموعة من الفنانين الكبار فى جيله مثل حلمى التونى وبهجت عثمان وعدلى رزق الله وحسن سليمان وسعد عبد الوهاب وزهدى ومحمد حجى وهبة عنايت وآخرين، مهما اختلفت السبل والمسارات والأمزجة. ولم يكن اللباد نبتا شيطانيا فى هذا المجال، وهو لم يدّع ذلك على الإطلاق، بل إنه كان يتجاوز فكرة أنه صانع للكتب والمجلات، إلى الباحث فى تاريخ الفنون، وأعتقد أن ما قدمه اللباد فى هذا المجال ليس له أى نظير عند الفنانين من أقرانه الذين شاركوه الطريق والمسار والرحلة، وفى كراساته التى اختار لها عنوانا دالا «نظر» قدم تراثا من البحث الفنى والتقنى لم يسبقه أو يعقبه شبيه، وراح يبحث فى الدوائر والأصول الفنية لأسلافه العظام، فى مصر والعالم العربى والعالم كله، ووصلت هذه الكراسات أو المجلدات إلى أربعة مجلدات، أعادت طبعها ونشرها الهيئة المصرية العامة للكتاب فى مجلد واحد، وبسعر زهيد جدا، وهو 20 جنيها فقط. ومن بين الاكتشافات التى عثر عليها اللباد فى تنقيباته وأبحاثه الفريدة، اكتشاف المثّال العظيم مختار كفنان للكاريكاتير، ولا ينسب اللباد إلى نفسه هذا الاكتشاف، لكنه يذكر أن الدكتور ووزير الثقافة الأسبق والناقد التشكيلى بدر الدين أبو غازى، هو الذى ذكر ذلك فى كتابه عن مختار، ونظرًا لانهيار عملية المتابعة لدى الأجيال الحديثة، غابت هذه المعلومة فى الوقت الحاضر، وما فعله اللباد، أنه أخضع كثيرًا من المعارف والمعلومات تحت مجهره الفنى والبحثى، حتى يعيد اكتشاف المعلومة فى منظورها اللبّادى الخاص، والفنى، وربما الفكرى والسياسى. وجدير بالذكر أن اللباد فى بداياته، وعندما كان طفلا صغيرا، كان يراسل مجلة «سندباد»، وكانت المجلة تعتبره مراسلها، وكان يدخل مسابقات ويفوز فيها، وله رسومات كثيرة منشورة فى هذه المجلة، وظلت رسوماته تنشر وتتطور بمجلات «التحرير» و«الهدف» و«المساء» قبل أن يلتحق بمجلة «صباح الخير» فى ما بعد، وعندما حصل فى التوجيهية على درجة متفوقة، التحق بكلية الطب، ولم ينسجم مع هذه الكلية، وانتقل إلى كلية الفنون الجميلة، وبدأ اسمه يتردد فى المجال الفنى، وكان أول من قدمه بشكل واسع الفنان حسن فؤاد فى مجلة «الرسالة الجديدة»، عام 1957، وكانت أول مجلة كبيرة تقدمه فى الحياة الثقافية والفنية، وكذلك تنشر له صورة، ويكتب عنه حسن فؤاد مقالا قصيرا، ولكنه مقال حفل بكل عبارات التشجيع والثناء، وكان اللباد وقتها فى السابعة عشرة من عمره. وراحت رسومات اللباد الكاريكاتورية تنتشر بشكل لافت، وراح يبدع عوالمه الخاصة، وكانت مجلة «صباح الخير» مساحة كبيرة لنشر إبداعاته الخاصة، وكانت تفرد له صفحتين أو ثلاث أو أربع صفحات، حتى يتسنى للفنان إدراك غايته من فكرته الفنية، وأعتقد أن اللباد كانت الفكرة تعمل عنده، أو فى مختبره الفنى، مع تشكيلها، فمثلا كان يحدد عنوانا ما، وليكن «السلالم»، ويبدأ يعمل تنويعات كاريكاتورية، ذات طابع سياسى، أو اجتماعى، أو فنى، وحسب هذه التنويعات كانت تأتى تشكيلاته الخاصة، مع خطوطه المميزة، مع شخصياته المعبرة. وفى 13 مايو 1971 نشر فى مجلة «صباح الخير» عدة رسومات كاريكاتورية متنوعة عن «البطاقات الشخصية»، لنكتشف أن هناك ثغرات فى حياتنا تستحق النظر، هذه الثغرات التى لا تدركها العين التقريرية، ولكنها تقع تحت عين الفنان، فيبرزها فى لوحات أو قصص أو قصائد. وضمن ما قاله على الراعى عن محيى اللباد، أنه يشبه برنارد شو فى تطوير فن الكوميديا، إذ كانت الكوميديا قبل شو، تعمل على اكتشاف الغريب والمدهش والناشز، وإبداع السخرية من كل ذلك، ولكن شو كان يلتقط العادى والمألوف، ويثير حوله نقده، ليكشف عن عدم مألوفيته وعدم عاديته، وهذا ما فعله اللباد فى حياتنا الفنية والكاريكاتورية عمومًا.