جامعة بنها: إطلاق مسابقة الحلول الابتكارية بالجامعة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة    جامعة طيبة التكنولوجية تنظم تدريبا مكثفا على خطة إخلاء الطوارئ    موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم ل القطاع الخاص 2024    إطلاق مسابقة الحلول الابتكارية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بجامعة بنها    بدء تلقى طلبات التصالح الثلاثاء القادم بالمنوفية    بيان مهم من السياحة بشأن استقبال حجاج البر لموسم حج 1445 هجريا - مستند    بدء تسليم وحدات إسكان الشباب في الإسماعيلية 8 مايو.. اعرف التفاصيل    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    الأونروا تكذب نتنياهو بشأن إخلاء مدينة رفح الفلسطينية    الناتو: الغزو الروسي لدولة مجاورة للحلف أمر غير مرجح    حزب الله اللبناني يعلن تدمير دبابة إسرائيلية وقتل وجرح طاقمها    دورتموند يستعيد نجوم الفريق قبل مواجهة سان جيرمان بدوري الأبطال    اتحاد جدة يكشف تفاصيل إصابة سداسي الفريق    الزمالك يكشف آخر تطورات ملف قضية باتشيكو    المصري عمر حجازي بصدد تحقيق رقم قياسي عالمي جديد لتسلق الجبال    "مش خايفين".. شوبير يكشف تدخل هؤلاء لفك قيد الزمالك    الإعدام والمشدد 15 عاما للمتهمين بسرقة سيارات التجمع    غرق بمياه ترعة.. العثور على جثة شخص في الصف    خرجت لعلاج الأطفال فعادت جثة.. قصة طبيبة الإنسانية التي ابتلعتها ترعة في كفر الشيخ - صور    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    مدحت العدل: هناك نصوص أدبية تسري بين سطورها روح الدراما    زاهي حواس يوضح سبب تجاهل الفراعنة لوجود الأنبياء في مصر.. شاهد    "شهر زي العسل" يدخل تريند "جوجل" ومحامي يطارده ببلاغ للنيابة العامة    روحانيات فرقة الإنشاد فى حفل على مسرح معهد الموسيقى    خالد عبد الغفار يبحث مع وزيرة التعاون الدولي القطرية فرص الاستثمار في المجال الصحي    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    تفاصيل زيارة وفد منظمة الصحة العالمية لمديرية الصحة في أسيوط    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    أمير الكويت يصل مطار القاهرة للقاء السيسي    رئيس وزراء بيلاروسيا: مستعدون لتعزيز التعاون الصناعي مع مصر    غدًا.. «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف الإعانة الشهرية لشهر مايو    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    "دمرها ومش عاجبه".. حسين لبيب يوجه رسالة نارية لمجلس مرتضى منصور    كيف تجني أرباحًا من البيع على المكشوف في البورصة؟    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    رجب أبو سرية يكتب //انتصار نتنياهو يعني التهجير فقط    الليلة.. حفل ختام الدورة العاشرة ل مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    سرعة جنونية.. شاهد في قضية تسنيم بسطاوي يدين المتهم| تفاصيل    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    موعد غلق باب التقديم للالتحاق بالمدارس المصرية اليابانية في العام الجديد    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    عشان تعدي شم النسيم من غير تسمم.. كيف تفرق بين الأسماك الفاسدة والصالحة؟    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    ماس كهربائي.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة دون إصابات في فيصل    "عايز تتشهر ويجيبوا سيرتك؟".. متحدث الزمالك يدافع عن شيكابالا بهذه الطريقة    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    اليوم.. آخر موعد لتلقي طلبات الاشتراك في مشروع العلاج بنقابة المحامين    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    رئيس اقتصادية قناة السويس يناقش مع «اليونيدو» برنامج المناطق الصناعية الصديقة للبيئة    كينيا تلغي عقد مشروع طريق سريع مدعوم من البنك الأفريقي للتنمية    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    الإسماعيلي: نخشى من تعيين محمد عادل حكمًا لمباراة الأهلي    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالتيمور.. تاريخ أمريكى أسود
نشر في التحرير يوم 05 - 05 - 2015


كتب- أميل أمين:
ما الذى يجرى فى الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا؟
المؤكد أن السؤال يتصل بشكل أساسى بالأحداث المثيرة والخطيرة التى تجرى فى مدينة بالتيمور، التى هى خليط من صراع طبقى وعنصرى بين البيض والسود، فى بلاد تقرع العالم صباح مساء كل يوم بأنموذجها الديمقراطى وبحرياتها المطلقة، وعدالتها غير المسبوقة، وقضائها الذى لا يضارع. وحال وضعنا مشاهد بالتيمور الأخيرة بجانب ما جرى فى مدينة أمريكية أخرى منذ بضعة أشهر -فيرجسون- ربما يخلص الشاهد إلى أن حلم القس وداعية حقوق الإنسان المغدور مارتن لوثر كينج فى ستينيات القرن المنصرم قد تبخرت أو هى فى طريقها إلى ذلك دون شك، فقد تحدث الرجل عن حلمه لأطفاله الأربعة، الذين سوف يعيشون يوما ما فى دولة، لا يحكم فيها على أساس لون بشرتهم وإنما شخوصهم وأفعالهم.
ماذا جرى ويجرى فى بالتيمور؟ وهل هذه هى المرة الأولى التى تحدث فيها أعمال شغب فى هذه المدينة؟ ثم -وهذا هو الأهم- ما الذى يمكن أن يصيب حالة الاتحاد الأمريكى، بمعنى هل يمكن أن تكون العنصرية والطبقية جرثومتى تفكك الاتحاد الفيدرالى الأمريكى؟
بالتيمور.. مدينة الأمريكيين السود
جغرافيا تقع مدينة بالتيمور فى الشمال الشرقى للولايات المتحدة الأمريكية فى منتصف ولاية ميريلاند، وهى أكبر مدن الولاية، وترتيبها السادس والعشرون من حيث عدد السكان فى الولايات المتحدة، ويقطن المدينة أكثر من 620 ألف نسمة يمثل السود 63% منهم، بينما يمثل البيض 29% من عدد السكان.
ما الذى أشعل نيران العنصرية فى المدينة من جديد؟
فى 19 أبريل المنصرم توفى فريدى جراى، الشاب الأسود البالغ من العمر 25 عاما، جراء إصابة بالعمود الفقرى، بعد أسبوع فقط من نقله إلى المستشفى فى أثناء احتجازه من قبل الشرطة، لم يكشف المحققون بعد عن أسباب إصابة جراى، وما إذا كانت الشرطة بالفعل قد تسببت فى تلك الإصابة. تعددت الروايات بشأن ما جرى لفريدى، وإن كانت جميعها تتفق على أنه تعرض لمعاملة جسدية وحشية من قبل شرطة المدينة، الأمر الذى ألحق به إصابات جسدية خطيرة، قادته فى النهاية إلى الموت، لتشييع جنازته فى 27 أبريل، وبعدها بساعات كانت الاشتباكات تندلع بين المتظاهرين وقوات الشرطة فى أنحاء المدينة، خصوصا فى الجزء الشمالى الغربى منها، وفى نهاية يوم الاثنين 27/4 كانت هناك خمس عشرة حالة إصابة مؤكدة فى صفوف الشرطة، بجانب احتراق سيارة شرطة والعديد من المحلات التجارية، ليعلن لارى هوجان، حاكم ولاية ميرلاند، أحكام الطوارئ فى الولاية، وفرض حظر التجوال، على أمل أن يهدأ العنف وتقل الاشتباكات، كما انتشرت وحدات الحرس الوطنى لتمنع عمليات النهب.
ظلم السود.. انفجارات قديمة متجددة
يلفت النظر فى تاريخ مدينة بالتيمور إلى أنها على موعد قديم- جديد مع أعمال الرفض من قِبل السود لعنصرية الرجل الأبيض، ذلك أنها ليست المرة الأولى التى تشهد شوارع المدينة أعمال احتجاج عنيف، بسبب الظلم الواقع على السود الذى لا تبدو له نهاية قريبة.. هل من ذكريات مؤلمة فى هذه السردية الكارثية؟
بحسب مجلة «فوكايتف» فى السادس من أبريل من عام 1968، وبعد يومين من اغتيال مارتن لوثر كينج وجدت بالتيمور، مثلها مثل عديد من المدن الأخرى، فى جميع أنحاء الولايات المتحدة، نفسها غارقة فى أعمال الشغب والاحتجاجات، وفى ذلك الوقت كان أكثر من 50% من سكان المدينة لا يزالون من البيض، على الرغم من أن التركيبة السكانية هناك كانت تتغير بسرعة، وفى غضون عامين فقط أصبحت نسبة السود متساوية تقريبا فى العدد مع البيض، بعد أن كان عددهم نصف عدد البيض فى عام 1950.
وفى عام 1968 كانت بالتيمور معزولة بشكل كبير، وهو الأمر الذى لم يتغير بعد، وخلال أعمال الشغب اقتصرت الأضرار عموما على مجتمعات السود الفقيرة، التى تبدأ فى الجانب الشرقى للمدينة وتنتشر خارجها. وبعد أربع ليال من الشغب تم نهب أو إتلاف أو حرق أكثر من 1000 شركة، وكان قد قُتل ستة أشخاص، وأصيب أكثر من 700 آخرين، كما كانت قيمة الأضرار تساوى مئة مليون دولار بأسعار اليوم.
شرطة بالتيمور.. معاملة وحشية للسود
هل كانت ولا تزال المعاملة الوحشية التى تقوم بها شرطة بالتيمور لأهالى المدينة هى السبب الرئيسى فى ردود الفعل العنيفة التى رأيناها مؤخرا؟
بالرجوع إلى السجلات نجد أن شرطة هذه المدينة بنوع خاص تمتلك سجلا سيئا حافلا بالانتهاكات والاتهامات باستخدام القوة المفرطة والعنف، ففى الأعوام الأربعة الأخيرة وحدها، اضطرت إدارة شرطة بالتيمور إلى دفع أكثر من 5 ملايين دولار لتسوية قضايا ضد انتهاكات قامت بها الشرطة، ومعظم تلك القضايا لم يعلم عنها أحد، لأن أحد بنود التسوية يلزم الضحايا بعدم التحدث عما تعرضوا له، سواء فى وسائل الإعلام أو حتى على منصات التواصل الاجتماعى، تحت داعى حماية سمعة جهاز الشرطة، وفى سبتمبر 2014 نشرت جريدة «بالتيمور صن» تقريرا مطولاً عن وحشية الشرطة والمبالغ التى تنفقها فى التسويات القضائية لصالح ضحايا عنف ضباط الشرطة، وفى إحدى الحالات تعرضت جدة فى السابعة والثمانين من عمرها لكسر فى الكتف، بعدما دفعها ضابط الشرطة الذى كان يحقق مع حفيدها أرضا.
فبينما كانت تحاول الجدة إسعاف حفيدها الذى أصيب نتيجة إطلاق ضابط الشرطة الرصاص عليه دفعها الضابط قبل أن يقوم بوضع ركبتيه فى ظهرها، ويقيدها من ذراعيها خلف ظهرها، بينما يطلق السباب العنصرى ضد السود، وقد ظلت الجدة تعانى من الإصابات التى ألمت بها عدة سنوات بعد الحادثة، وحصلت على عرض لتسوية قضية رفعتها ضد الشرطة وحصلت فى المقابل على 95 ألف دولار، لكن الجروح النفسية لم تشفها الدولارات الأمريكية بعد.
السود.. صيد سهل لرصاص الشرطة
لماذا يبقى السود تحديدا هدفا سهلا وصيدا يسيرا لقناصة ورصاصات الشرطة الأمريكية؟ بالبحث فى عدة مواقع إحصائية واستقصائية، نجد أن احتمالية أن تطلق الشرطة النار، وأن تقتل شابا أسود تفوق ب21 مرة الاحتمالية بإطلاق النار وقتل شاب أبيض بين 2010 و2012، وخلال العام الماضى اهتزت الولايات المتحدة عدة مرات فى جرائم قتل ارتكبتها الشرطة بحق مواطنيها، مثال ذلك حادثة إطلاق النار على «والترسكوت»، فى كارولينا الجنوبية، كما أن حادثة مقتل البالغ من العمر 18 عاما مايكل براون، التى أثارت أحداث شغب كبرى لا تزال حاضرة.
وفى أكثر من ولاية تكررت الأحداث العنصرية، فقد اشتعلت ولاية ميزورى فى ديسمبر الماضى بعد قتل الشرطة هناك للمراهق الأمريكى من أصول إفريقية مايكل براون 18 عاما، وهو أعزل فى أثناء استجابته لأوامر الشرطة برفع يديه للأعلى، ما دعا الاحتجاجات الشعبية تشتعل من سانت لويس المجاورة حتى نيويورك تهتف باسم مارك براون، وتطالب بالعدالة وعدم إطلاق النار على العزل الذين يرفعون أيديهم استجابة لأوامر الشرطة.
يعن لنا التساؤل هل من حدود قانونية لمسألة إطلاق الشرطة الرصاص على المشتبه فيهم؟
وفقا لقرارين سابقين أصدرتهما المحكمة العليا فى الولايات المتحدة، فإن من حق الشرطى أن يستخدم القوة القاتلة فى حالتين أساسيتين، الأولى هى لحماية حياته وحياة طرف آخر برىء، والثانية هى أن يمنع المشتبه به من الهرب، إذا كان يعتقد أن الأخير سيؤذى غيره باستخدام العنف.
وحتى الآن، من النادر للغاية أن يحاكم الشرطى بتهمة إطلاق النار، حيث إن القانون الأمريكى يعطى له مساحة كبيرة من استخدام العنف، كما أنه فى بعض الحالات يقوم بإجراء التحقيقات محققون ينتمون إلى ذات قسم الشرطة الذى يتم التحقيق معه، وهذا يخلف تضاربا فى المصالح، وفى بعض الحالات الأخرى تتكون الأدلة من شهود العيان، الذين لا تتعامل معهم الشرطة بالثقة الكافية كما تتعامل مع أفرادها.
العنصرية ضد السود.. جرح غائر
هل يعنى الحديث عن التهميش أو الإهمال أن العنصرية ضد السود جرح اندمل بالفعل أم أنه لا يزال جرحا غائرا ومفتوحا فى الجسد الأمريكى؟
الشاهد أنه رغم إقرار قانون الحقوق المدنية عام 1964 فإن ثورات وفورات السود لم تتوقف يوما، ففى عام 1965 جرت أحداث مدينة واتس، وفى عام 1967 اشتعل فتيل المواجهات العنصرية فى ديترويت، وبحلول عام 1968 ومع اغتيال مارتن لوثر كينج سقط عشرات القتلى، وألقى القبض على آلاف من السود، ثم تجددت الاشتباكات فى أوائل التسعينيات وامتدت إلى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين ثم إلى نصف العقد الثانى منه. والثابت أنه لكى نفهم أبعاد العنصرية الأمريكية المأساوية يلزمنا الحديث ولو فى اختصار غير مخل على صعيدين، الأول تفكيكى وتحليلى للأزمة، والثانية يتصل بالأرقام التى لا تكذب ولا تتجمل.
السياق الأول تشير إليه قراءات علماء النفس والاجتماع الأمريكيين الذين يرون أن الرجل الأبيض لم يتخلص مرة وإلى الأبد من الذهنية العنصرية، وهذا مظهر يتراءى للناظر حال التطلع إلى المراكز المهيمنة فى المجتمع الأمريكى، مما يجعل القول بوجود مساواة حقيقية ضربا من ضروب عدم الواقعية، فصاحب العمل لا يزال يرى فى الرجل الأبيض نموذجا للإنسان المتحفز الأحق بالوظائف، فى حين لا يزال يستخدم البعض، وإن بطريقة غير رسمية لفظ «Negro» أى العبد على السود.
ولهذا ليس مستغربا أن تولد وتنشأ غالبية هؤلاء فى أوساط مصابة بأوبئة اجتماعية قاتلة كالبطالة المرة والإدمان القاتل والتشدد المميت والأمية المهلكة، وقد كانت مدن فيرجسون وبالتيمور عنوانا للبطالة الكاسحة بين السود، منذ أن غادر البيض المدينة فى ثمانينيات القرن المنصرم، وتوقفت مصانعها وحركتها التجارية والصناعية، لتضحى فريسة للفقر.
ماذا على صعيد الأرقام؟ بحسب معطيات دائرة الإحصاء الأمريكية فإن نسبة الأمريكيين ذوى الأصول الإفريقية اليوم فى البلاد تصل إلى 14%، وحسب استطلاع للرأى أجرته وكالة «الأسوشيتد برس» عام 2012 فإن غالبية الديمقراطيين والجمهوريين يضمرون مشاعر معادية للسود (55% من الديمقراطيين و64% من الجمهوريين) وبين المستقلين لم تختلف النسبة كثيرا فقد بلغت 49%.
ولعل أفضل دراسة عن العنصرية فى أمريكا هى تلك التى قدمها مؤخرا الكاتب الإيطالى، جيوفانى ماورو، وقد اعتمد فيها على الأرقام والبيانات الإحصائية الواردة من مكتب الولايات المتحدة للإحصاء، والمركز الاتحادى لإحصاءات العمل، ومراكز تعليمية وحقوقية مختلفة، وتوصل إلى عشر حقائق، تؤكد واقعية الظلم على السود، منها على سبيل المثال أن 37% من أطفال أمريكا السود يعيشون فى دائرة الفقر، وأن عدد العاطلين السود عن العمل، ضعف عدد العاطلين البيض، وحتى السود الذين يعملون يتقاضون مرتبات وأجور أقل مما يتقاضاه البيض بنسبة 20%.
أوباما رئيس أسود.. وتوجهات عنصرية:
لماذا لم يخفف انتخاب باراك أوباما من واقع العنصرية الأليم فى داخل البلاد الأمريكية؟ المؤكد أن العكس هو الذى حدث، ولعل من استمع منذ أسابيع قليلة إلى تصريحات عمدة مدينة نيويورك، رودلف جوليانى، عن أوباما، قد وقر لديه أن انتخاب الرجل الأسود الأول كرئيس للبلاد قد عزز الشرخ العنصرى، فقد أشار جوليانى إلى أن أوباما لا يحب أمريكا، ولم يولد أمريكيا، وولاؤه وانتماؤه ليس للأمريكيين، ناهيك بتهمة الإسلاموفوبيا التى تطارده، بحجة أنه عاش فى إندونيسيا حتى سن السادسة عشرة من عمره، وهناك نشأ وتربى كمسلم؟
والمؤكد أن ما ساير انتخابات أوباما قد عزز من اليقين بأن العنصرية متمكنة من الأركان الأساسية للدولة الأمريكية، فبحسب استطلاع للرأى أجرته صحيفة «الواشنطن بوست» وشبكة «ABC»، فقد اعترف 6 من أصل 10 إفريقيين أمريكيين بأن العلاقات العرقية ليست على ما يرام، أو أنها هزيلة، وذهب أكثر من نصف البيض بقليل إلى وصف أوباما بأنه اختيار خطير للبيت الأبيض، بينما أشار نحو 60% إلى أن ماكين هو الاختيار السليم، وليس هذا فحسب، بل إن 3 من أصل 10 أمريكيين اعترفوا بمشاعرهم بالحيز العنصرى.
فى هذا الإطار التحليلى يخبرنا الناشط العربى اللبنانى الأصل الأمريكى الجنسية، جيمس زغبى، رئيس المعهد العربى الأمريكى فى واشنطن: بأنه بالعودة إلى الوراء، أى إلى عام 1964، كانت صكوك الملكية العقارية فى شمال غرب واشنطن تتضمن تعهدا يمنع بيع ذلك العقار إلى أمريكى من أصل إفريقى، وبعد نحو أربعة عقود من إعلان هذه المواثيق باطلة ولاغية فقد ظلت «واشنطن دى سى» عاصمة الولايات المتحدة، عاصمة منقسمة بشكل غير عادى، ذلك أنه رغم أن ثلثى سكان المدينة من الأمريكيين الأفارقة، فإن واشنطن تنقسم تقريبا إلى نصفين من الشمال إلى الجنوب بواسطة حديقة «روك كريك» أحد جانبى الحديقة يسكنه أكثر من 90% من البيض، والآخر لا يزال 90% من سكانه من السود، وبذلك الانقسام الفعلى نجد الفروقات الواضحة فى الداخل، البنية التحتية، التحديات والفرص، وكلها أشياء تذكرنا بأن ما لم يتم إنجازه أكثر بكثير مما تم من أجل القضاء على العنصرية الكافية فى النفس الأمريكية.
أمريكا.. الطبقية أم العنصرية وراء العنف؟
ضمن الأسئلة العديدة التى ارتفعت إلى عنان السماء بعد أحداث بالتيمور الأخيرة كان ذلك السؤال المتصل بالتوصيف الحقيقى للأزمة، فهل هى أزمة عنصرية أم أزمة طبقية، وإن كان المصير واحدا، الذى يتمثل دائما فى حالة العنف والعنف المضاد؟
هناك وفى واقع الأمر رؤى مختلفة فى هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال رأت صحيفة «الواشنطن تايمز» أن المواجهات والقلاقل التى يقودها السود سببها ليس عنصريا وإنما طبقى، وذهبت صحيفة «لوس أنجلوس» إلى القول بأن السبب هو عدم الاهتمام برأى الأمريكيين السود، رغم أن معظم قيادات المدينة منهم.
وتقارن الصحيفة بين ما جرى فى مدينة فيرجسون وبالتيمور، وتقول إن الأولى فيها أغلبية من السود تصل إلى 67%، بينما قوات الشرطة والأمن مكونة من غالبية بيضاء، وليس فيها سوى ثلاثة أفراد من السود. أما فى بالتيمور فالأمر مختلف، فعمدة المدينة أسود ورئيس مجلس المدينة أمريكى أسود، ومأمور الشرطة من السود، بالإضافة إلى 3 آلاف عنصر يمثلون نصف قوات الشرطة فى المدينة هم من الأمريكيين السود أيضا.
وترى الصحيفة أن الحاجز الذى يقف بين سلك الشرطة وأهالى بالتيمور هو حاجز طبقى، حيث يتعالى أفراد الشرطة على الفقراء، ويشعر سكان الضواحى الفقيرة بأنهم مستهدفون ويعاملون بطريقة غير عادلة. كما تنقل الصحيفة عن مدير مشروع معهد كاتو للعدالة الجنائية، تيم لينش، قوله إن الأمر لا يتعلق بالعرق، بل بإحساس المرء أنه مواطن من الدرجة الثانية.
بعض التحليلات الأخرى تؤكد أن الإهمال هو السبب الرئيسى فى ردود أهالى بالتيمور العنيفة، هذا الإهمال أدى إلى انتشار الفقر المدقع والجهل فى بعض أحياء المدينة، وهو أمر متوقع ومنطقى فى ظل الظروف المالية التى تمر بها أمريكا، فدائما ما تكون الأولوية والأفضلية للرجل الأبيض والأماكن التى يعيش فيها، ولهذا تعد أمريكا على قمة الدول الأكثر تفاوتا بين مواطنيها فى الثروة، كما أن تصنيفها من بين الدول الصناعية فى الإنفاق على البرامج الاجتماعية، يقع فى مرتبة «أقل من العادى»، هذه النواقص تغذى الإحباط والعزلة، وبالتالى النزوع إلى العنف لدى الشرائح المهمشة فى ضواحى المدن، وبالذات الأمريكيين السود من بينهم، باعتبارهم الأكثر تجاهلاً، وربما من هنا يتغذى العنف فى صفوفهم، والذى شهدت مدينة بالتيمور نسخة منه، وقد لا تكون المدينة الوحيدة.. هل يعنى ذلك غياب العنصرية والعرقية؟
على أن أكبر تهديد حقيقى يواجه الحياة الديمقراطية فى أمريكا اليوم هو وجود فكر عنصرى عرقى فى داخل منظومة العدالة الأمريكية، ذلك أن العقوبات القضائية التى تصدرها المحاكم الأمريكية ضد السود عادة ما تغلظ بنسبة 20% مقارنة بنفس الأحكام التى تصدر ضد البيض على نفس التهم.
أما بيانات مكتب التحقيقات الاتحادية «FBI» الخاصة بعام 2005 على سبيل المثال، فتشير إلى أن نحو 4700 جريمة قتل ارتكبت فى الولايات المتحدة، استهدف السود منها بنسبة 68%، ولعل هذا الرقم يعكس مقدار جرائم الكراهية ضد السود، حيث يشعر 60% من شبابهم بأنهم منبوذون، والعهدة هنا على دراسة أجرتها مؤخرا جامعة شيكاجو.. هل يمكن للعنصرية والطبقية والتهميش والإهمال أن يقودوا أمريكا إلى ما هو أسوأ؟
العنصرية- طريق التفكك والأفول الأمريكى
كيف كان انتخاب أول رئيس أسود للبلاد أداة عكسية فى مواجهة العنصرية بعد التشكيك فى ولائه؟
يتساءل المراقب المحقق والمدقق للشأن الأمريكى هل يمكن للعنصرية أن تكون بداية الطريق الأمريكى لتفكك عقد الاتحاد، لا سيما أن المشهد لا ولن يتوقف عند حدود السود والبيض، بل بات يتسع اليوم بين البيض وأصحاب الأصول الأسبانية، عطفا على التمييز الدينى بين المسلمين وخلافهم من أصحاب الأديان الأخرى؟
قبل نحو عامين تقريبا رسم العالم والدبلوماسى الروسى الشهير، إيغور بانارين، عميد أكاديمية وزارة الخارجية الروسية، خريطة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية، وقسمها إلى ستة أجزاء، وتوقع أن ينتهى شكل الاتحاد الحالى فى غضون بضع سنوات.. ماذا عن تلك الأجزاء؟ إنها كالتالى:
1- أمريكا الأطلسية، وذهب إلى القول بأن هذا الجزء الشرقى منها الواقع على ساحل المحيط الأطلسى مرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى.
2- الجزء الشمالى أى ألاسكا، الذى ستقوم جمهورية روسيا بضمه.
3- الولايات الأمريكية الشمالية الوسطى، وستقع تحت سيطرة كندا.
4- جمهورية كاليفورنيا فى أقصى الغرب، وستقوم الصين ببسط هيمنتها عليها.
5- الجنوب الأمريكى مثل تكساس، سيمضى إلى الجارة المكسيك ليضحى تابعا لها.
6- جزر هاواى ستضمها الصين أو اليابان.
هل يُعقل أن يكون لهذا الحديث أى نصيب من الصحة؟
المؤكد أنه لو ورد هذا الكلام على لسان شخص عادى لاعتبر ضربا من ضروب الجنون غير أن قائله كان محللاً فى الاستخبارات الروسية وخبيرا فى العلاقات الروسية الأمريكية.
والمثير أن هناك من الأمريكيين مَن يذهبون مذهبه، منهم على سبيل المثال وليس الحصر الكاتب السياسى الأمريكى البارز بول كريج روبرتس، صاحب كتاب «المحافظين الجدد»، وفيه يعترف بأن القوة الأمريكية قد تحطمت بالفعل، وأن الولايات المتحدة أضحت ضائعة، وأن البلاد تعيش حالة من الانهيار الأخلاقى والضغط النفسى الكبير، مما تسبب فى ازدياد حركات العنصرية وأعلى من شأن الأصوات اليمينية، وروج لسياسات الكراهية، وقد دمرت الرأسمالية المتوحشة روح الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، هل لهذا بدأت بالفعل بعض الأصوات تطالب بانفصال ولايات بعينها عن سيرة ومسيرة الاتحاد؟
إن ما يجرى فى أمريكا اليوم يذكرنا بما حدث عام 1865 عندما طالبت عدة ولايات أمريكية بإبطال القوانين الفيدرالية، والدعوة للانفصال، وهذا ما نشهده هذه الأيام فى ولاية تكساس، حيث يرى الناطق باسم «الحركة القومية فى تكساس» الداعية للانفصال، أن الابتعاد عن دائرة الاتحاد الفيدرالى هو الرد الوحيد، لأن الدولة مفتتة، ولم يعد من الممكن إصلاحها فى ظل طريقة عمل وأداء النظام السياسى المالى، ما الجديد- القديم الذى كشفت عنه أحداث بالتيمور؟
افتضاح الزيف الأخلاقى الأمريكى مجددًا
عرفت الولايات المتحدة الأمريكية على الدوام بأنها مصابة بحالة من حالات الازدواج الأخلاقى «Moral Paradox»، وفى مصطلح آخر أنها مريضة بما يعرف بمرض «تكافؤ الأضداد فى الروح الواحدة»، بمعنى أنها تفعل الشىء وعكسه فى ذات الوقت، وتنادى بشعارات لا تطبقها مثل حقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية، والمحافظة على حريات الأقليات، وجميع ما تقدم قد جعل منظومتها السياسية بنفس القدر فى مهب الريح، فهى غير قادرة على حسم أى مشهد، إذ تعمها وتشلها الحيرة بين تطبيق السياسات البراجماتية التى تكفل لها تحقيق مصالحها بسرعة وأنانية ونرجسية منقطعة النظر، وبين السياسات الواقعية التى نادى بها الرئيس الأمريكى ودور ويلسون، ولعل ردود الفعل الروسية والصينية، ولا نقول العربية أو الشرق أوسطية أو الإسلامية، على ما جرى ويجرى فى بالتيمور، وغيرها من المدن الأمريكية يشير إلى افتضاح حالة الزيف الأمريكية البيورتيانية «الطهرانية».
خذ إليك على سبيل المثال ما أورده قسطنطين دولغوف، مفوض الخارجية الروسية لشؤون حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، على حسابه فى موقع التواصل الاجتماعى «تويتر»، من أن الأحداث فى مدينة بالتيمور الأمريكية جاءت كدليل على عمق وأبعاد التمييز العنصرى فى أمريكا، مشيرا إلى أن 1450 حادثة قتل «غير متعمد» على يد رجال الشرطة تم تسجيلها فى الولايات المتحدة منذ مايو عام 2013، بحسب نشطاء أمريكيين، غالبيتهم من ذوى البشرة السمراء، وهم عزل فى معظم الحالات، كما أن مثول رجال الأمن المدنيين أمام العدالة أمر نادر للغاية، أما الأحكام الصادرة فى مثل هذه القضايا فخفيفة جدا.
الصينيون بدورهم لم يكونوا أقل حدة فى انتقاداتهم من الروس، فقد رأت صحيفة «الشعب» الصينية، الناطقة بلسان الحزب الشيوعى الحاكم، أن أحداث بالتيمور تكشف زيف المزاعم الأمريكية عن أنها مجتمع ينعم بالمساواة، وأضافت أن الاضطرابات فى بالتيمور وغيرها من المدن مثل فيرجسون بولاية ميزورى كشفت الضعف المنهجى فى النظام الأمريكى، مشيرة إلى أن وفاة شاب أسود فى بالتيمور تسببت فى الإضرابات والملاحقة وأنه فى كل مرة تغلى فيها الكراهية القديمة والجديدة فى التناقضات العرقية الأمريكية، فإنها تقول للعالم بوضوح إن إعلان الجميع ولدوا متساوين فى تلك البلاد التى تسمى «ساحة الأحلام» ليست له جذور بعد.
فى الأيام الماضية وجدت ملصقات وزعت وألصقت على بعض المطاعم الأمريكية فى مدينة أوستن بولاية تكساس الأمريكية مكتوب عليها «حصريا لذوى البشرة البيضاء»، الأمر الذى يذكر بما كان قائما بالفعل فى ستينيات القرن المنصرم من لوحات معلقة على بعض تلك المنشآت العامة التى تقول: «ممنوع دخول السود، واليهود، والكلاب» فهل أمريكا فى انحطاط وتردٍّ عنصرى سوف يؤثر على مستقبلها بشكل حقيقى؟
الجواب.. ما دام بقيت العدالة غائبة يضحى الخطر قريبا، فهناك يرون أن جرائم السود تساوى عصابات عنف، وجرائم العرب إرهاب، وجرائم الجاليات الإسبانية الجذور هجرة غير شرعية، أما جرائم الرجل الأبيض فهى نوع من أنواع الدفاع عن النفس.
وما دام بقيت هذه المفاهيم سائدة ورائجة ستضحى العنصرية شهادة وفاة أمريكا، أدبيا وأخلاقيا على الأقل، بعد أن كانت حلم المدينة فوق الجبل التى تنير للعالم سلاما وأمانا وديمقراطية وعدالة ومساواة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.