لم يكن هتلر يذهب للنوم قبل مشاهدة فيلم كل مساء فى دار المستشارية الألمانية فى برلين، مقر الحكم ومقر إقامته ومكان وفاته منتحرًا فى مخبئه المحصن تحت مبنى المستشارية يوم 30 أبريل 1945. وكان من طقوسه فى المشاهدة دعوة طاقم السكرتارية وكل العمال والموظفين والسائقين الموجودين، بالإضافة إلى الضيوف، لحضور الفيلم بصحبته كل مساء. كانت الشاشة المضيئة والممثلون والقصص التى أبدعها خيال كُتّاب السينما هى آخر ما يشاهده قبل أن تغفو عيناه ويذهب فى نوم عميق، فى المساء يدخل أحد أفراد السكرتارية ويقدّم له قائمة بأحدث الأفلام المتوفرة وأبطالها ونبذة مختصرة عنها، فيختار منها واحدًا يبدأ عرضه بعد العشاء. كيف كان هتلر يشاهد السينما؟ وما الأفلام التى أعجبته؟ هذه المعلومات ليست متوفرة فى مكان واحد، لكن من خلال تجميع معلومات من صفحات بعض يوميات سكرتارية ومساعدى الزعيم النازى، يمكن أن نتعرَّف على جانب مجهول وطريف تمامًا فى علاقته مع السينما، بعض العاملين بوزارة الإعلام الألمانية كتبوا عن الإجهاد الذى سبّبه هتلر للموظفين، بسبب قوائم الأفلام التى كان يطلب جلبها وترجمتها. هذا ليس موضوعًا عن أفلام البروباجندا التى كان يصنعها هتلر وقت حكمه، وليس عن الأفلام الأمريكية والأجنبية التى تناولته زعيمًا فاشيًّا شريرًا تسبَّب فى قتل الملايين فى حرب عالمية، بل عن مشاهداته وانطباعاته وتأثُّره بالأفلام، خصوصًا الأفلام الأمريكية التى كان شغوفًا بها. هوليوود تحت أمر الديكتاتور لم تكن علاقة هتلر وهوليوود كما يتصوّرها البعض من خلال عشرات الأفلام المناهضة له أثناء الحربوبعد نهايتها، لم تكن هوليوود ترى ضررًا فى التعامل مع الديكتاتور الأشهر، ما دام ذلك فى مصلحتها، فى الوقت الذى كان فيه العالم منزعجًا من صعود هتلر وحزبه إلى حكم ألمانيا فى الثلاثينيات، ومغامراته العسكرية فى غزو الدول المجاورة له، كانت هوليوود تتواصل مع نظام هتلر من أجل عرض أفلامها فى ألمانيا. تراوح عدد الأفلام الأمريكية التى كانت تُعرض فى ألمانيا سنويًّا قبل بداية الحرب العالمية الثانية بين 20 و60 فيلمًا، وتحتفظ الوثائق الألمانية بمراسلات من لويس بى ماير مدير استوديو مترو جولدن ماير، يبدى فيه استعداد الاستوديو لحذف كل اللقطات التى أزعجت السلطات الألمانية وجعلتها تمنع عرض بعض الأفلام، ووصل عرض مدير الاستوديو إلى حد اقتراح تجهيز عروض خاصة للأفلام بحضور القنصل الألمانى فى لوس أنجلوس، وحذف أى أجزاء يراها غير ملائمة من الفيلم. كان النموذج الصارخ لرضوخ هوليوود للألمان فيلم «All Quiet on the Western Front» (كل شىء هادئ على الجبهة الغربية)، وهو فيلم حربى مأخوذ عن رواية للكاتب الألمانى أريك ماريا ريمارك، ويتناول الحرب العالمية الأولى من خلال منظور مناهض للحرب والاقتتال، الكاتب نقل تجربته كمقاتل فى الحرب، ورصد الضغوط النفسية والجسدية التى يتعرَّض لها الجنود فى ساحة المعركة، وتأثيرها عليهم بعد عودتهم إلى الحياة المدنية، وعدم قدرتهم على التأقلم مرة أخرى. فى هذا الوقت كان الفيلم يتناقض مع خطاب هتلر الحماسى الذى يدعو فيه الألمان للحرب والاستعداد للقتال، وأيضًا خطابه حول الجندى الألمانى الذى يتحمَّل كل أنواع الضغوط والأهوال. بعد تنفيذ الاستوديو الأمريكى للحذف وإعادة المونتاج، كانت أوامر هتلر أكثر غطرسة على هوليوود، حيث طلب تعميم الحذف على الدول الأوروبية التى تعرض نفس الفيلم، وليس ألمانيا فقط، وأوصى هتلر سفراء ألمانيا بمتابعة ومشاهدة النسخ المعروضة فى الدول خارج ألمانيا. ليلة بكى فيها هتلر كان على السكرتارية الخاصة بهتلر توفير 365 فيلمًا فى العام، وقد بدأ هتلر بمشاهدة الأفلام الألمانية فقط، وبسبب عدم كفاية الإنتاج الألمانى لتغطية المشاهدة اليومية، طلبت السكرتارية إدخال الأفلام الأمريكية فى قائمة الأفلام اليومية، ولم يمانع هتلر وكان سعيدًا، كان يراها فرصة لتعلُّم المزيد عن الثقافة الأمريكية. أحب هتلر أفلام والت ديزنى بشدة، وكانت سعادته غامرة حينما نجح وزير دعايته جوزيف جوبلز، فى إحضار 12 فيلمًا لميكى ماوس دفعة واحدة، لم يكن العثور على هذه الأفلام سهلاً مثل الآن، ومعرفة ذوق الفوهرر كان أمرًا صعبًا، وحينما طلب هتلر أفلام ميكى ماوس، وضع قائمة تحمل عناوين محددة، مما يشير إلى أنه قرأ عن هذه الأفلام مسبقًا، وكانت سكرتارية هتلر المسؤولة عن عرض الفيلم المسائى لهتلر، إذ تقوم بأخذ الملاحظات حول الأفلام التى تعجب هتلر، كل فيلم شاهده هتلر كان السكرتير المسؤول يكتب بجواره رأى هتلر به، وكانت الأفلام التى يرفض إكمالها أو يصفها بالسيئة توضع فى قائمة سوداء، كنماذج للأفلام التى يُفضل استبعادها من المشاهدة. ومن الأفلام التى شاهدها هتلر عام 1938 الفيلم الكوميدى «الطريق إلى الغرب»، بطولة لوريل وهاردى، وكان تقييمه للفيلم (جيدًا)، وفيلم «الآنسة السويسرية»، وهو بطولة لوريل وهاردى أيضًا، قام بالتصفيق عند نهايته، أما فيلم «الزوجة الثامنة» المأخوذ عن مسرحية فرنسية لألفريد سافوار، وبطولة جارى كوبر وكلوديت كولبير، فلم يكمله هتلر، وأمر بوقف عرضه، الفيلم الكوميدى يحكى عن ابنة ماركيز مُفلس تُلقّن زوجها المليونير درسًا قاسيًا بعد اكتشافها أنها الزوجة الثامنة فى حياته، هذا الفيلم اقتبسته السينما المصرية مرَّتين، الأولى فى فيلم بطولة مارى كوينى ومحمد فوزى بعنوان «الزوجة السابعة»، والثانية فى فيلم شادية ورشدى أباظة «الزوجة رقم 13». من الأفلام التى أعجبت هتلر فيلم «كينج كونج»، نسخة عام 1933، بينما وصف فيلم «طرزان» بالسيئ، ويعود هذا إلى إيمانه بضرورة إظهار جمال وقوة البطل فى أفضل صورة على عكس الصورة التى يقدّمها طرزان، الشخص الذى يجمع بين صفات الإنسان والحيوان. فى يومياته كتب جوزيف جوبلز، وزير دعاية هتلر، عن إعجابه الخاص بالممثلة جريتا جاربو، ووصف رد فعله حينما كان يشاهدها فى فيلم «Camille» (غادة الكاميليا)، بقوله: «لقد كان وجه الفوهرر يضىء بالإعجاب كلما ظهرت جاربو على الشاشة، كنا جميعًا فى عالم آخر، لم نستطع جميعًا مغالبة دموعنا»، الفيلم مأخوذ عن رواية ألكسندر ديماس، المشهورة عن الغانية التى تجد الحب الصادق، لكن المجتمع والمرض يهزمان هذه العلاقة. قوانين من وحى الأفلام لم تكن مشاهدة الأفلام مجرد تسلية عابرة، كان هتلر يبدى رأيه ويعلّق على الأفلام، وكانت تعليقاته من منطلق ذوق مشاهد له خبرة كبيرة فى مشاهدة الأفلام، ومن الطريف أن نعلم أن أحد الأفلام التى شاهدها ذات مساء تسببت فى إصداره قانونًا خاصًّا بالجريمة، الفيلم هو «Tip off Girls»، ويبدأ بمشهد لسيارة نقل تتوقف على الطريق السريع بعد رؤية فتاة ملقاة جانب الطريق، ينزل السائق ومساعده لإسعافها، لكن تظهر عصابة من بين الأشجار تسرق السيارة، ويتضح أن الفتاة جزء من حيلة الجريمة، لكنه بعد 3 أيام يصدر هتلر قانونًا يقضى بإعدام أى شخص يقطع الطريق بغرض ارتكاب جريمة. لم يكن إنهاء هتلر مشاهدة فيلم ما حكمًا نهائيًّا على الفيلم بالسوء، بل أحيانًا لأسباب تتعلَّق بعدم ارتياحه لأداء ممثل معين، كان على سبيل المثال لا يحب أداء الممثل جوستاف جروندنجنز، وهو أحد أهم الممثلين الألمان وقتها، كما علّق على أحد الأفلام التى طلب وقف عرضها، وكان فيلمًا أرجنتينيًّا، بأن الدوبلاج الصوتى الألمانى لم يعطِ الممثلين الأصليين حقَّهم. وأشار العديد من الأفلام إلى أن هتلر استلهم طريقته فى الخطابة من فيلم ألمانى شاهده وهو شاب، وولعه بالأفلام أثَّر فى شخصيته، كان يقوم بالتدريب على أداء خطاباته، يقف أمام المرآة كأنه ممثل يقوم بالتدرب على دوره، له عدد من الصور النادرة فى أثناء هذه التدريبات، توضح الصور اهتمامه الكبير بأدائه الحركى كأنه ممثل مسرحى.