ودعت القصيدة العامية المصرية، اليوم الثلاثاء، شاعرها الأعظم، عبد الرحمن الأبنودي، الذي حقق فتوحات غير مسبوقة لها، حلق بها لآفاق لم يتصورها أحد قبله، ليعد حقًا امتداد لشعراء كبار أمثال: بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين، الذين عبّروا عن لحظات الانكسار والانتصار في حياة الوطن. وكانت الحالة الصحية للأبنودي قد تدهورت بشدة خلال الساعات الأخيرة، ونقل للمجمع الطبي للقوات المسلحة لإجراء جراحة عاجلة له في المخ بسبب وجود تجمعات دموية، إلا أن القدر أبى أن يمهله، ليفارق الحياة عن عمر ينازهز 76 عامًا عصر اليوم. وطوال رحلته الفنية، عبّر الأبنودي دائمًا عن أفكاره والواقع والثورة والهزيمة بكلمات بسيطة، وكتب قصائد تجسد هموم البسطاء وآلامهم، حتى أصبح شعره العامي متنفسًا للفقراء والثوار، حيث ساهم في صقل شخصية المصري الثائر الرافض للظلم والاستبداد. وعكف "الخال" طوال 20 عامًا على جمع وتدوين "السيرة الهلالية، حتى ضمت نحو مليون بيت من الشعر، بعد أن استمع لها من رواة السيرة وشعراء الصعيد. وبقى صاحب كتاب "أيامي الحلوة"، حتى اللحظة الأخيرة، مرتبطًا بهموم المصريين وتطلعاتهم واشتياقهم لحياة كريمة حرة وعادلة، فيما جاءت إبداعاته الشعرية، التي كانت وستبقى علامة في شعر العامية المصرية، لتجسد الموقف لشاعر ومثقف مصري كبير، كان بحق صديق الشعب ولسان حال رجل الشارع، فهو الذي أبدع ديوان "أنا والناس". وبفضل عبد الرحمن الأبنودي شهدت قصيدة العامية نقلتها النوعية التاريخية عبر لغة متفردة استحوذت على إعجاب النخب ورجل الشارع في آن واحد، وسيبقى اللون الأدبي مدينًا بالكثير له. وفي آخر تصريحاته قبيل وفاته، قال الأبنودي "منذ أن رمى الله الشعر في حجري وأنا أراعي الله والوطن في كتاباتي، ولم أكتب شعرًا ضد الوطن أو سعيًا خلف المال أو ضد المبادئ"، فلن تنسٍ ذاكرة الوطن والشعر قصائده الملهمة لروح المقاومة عقب نكسة الخامس من يونيو 1967. واختار صاحب "وجوه على الشط" و"عدى النهار" و"أحلف بسماها وبترابها" و"ابنك يقول لك يابطل" الإقامة منذ سنوات في قرية "الضبعية" بمحافظة الإسماعيلية، فيما كان تراث الصعيد طاغيا على بيته في تلك القرية عند شط القناة. وأعرب الأبنودي، الذي أبدع "الأرض والعيال" و"الزحمة" و"جوابات حراجي القط" و"الفصول"، عن حبه وامتنانه لجموع المصريين، الذين أحاطوه بمشاعر حب صادق في محنة مرضه الأخير، وكما انحاز إلى الثورة في 25 يناير 2011، وأيضًا حيتما خرج الشعب في الموجة الثانية للثورة في 30 يونيو 2013. وتعد قصيدة "الميدان" من أبرز التجليات الإبداعية الشعرية للثورة، والتي يقول فيها "طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع .. وحققوا المعجزة صحوا القتيل من القتل". وارتبط عبد الرحمن الأبنودي بصداقات وثيقة مع كبار المثقفين المصريين والعرب، وفي مقدمتهم الشاعر الراحل أمل دنقل والروائي الراحل يحيي الطاهر عبد الله والأديب العالمي نجيب محفوظ، والكاتبين الروائيين جمال الغيطاني وحمد المنسي قنديل، والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، فضلًا عن الروائي السوداني الراحل الطيب صالح، وفنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي. وقال عنه الروائي الراحل يحيى حقي، إنه يشبه "قرص العيش البلدي بالسمنة الفلاحي". وذكر الأديب الكبير، يوسف القعيد، أن لشعر الأبنودي خصوصية تأتي من تركيبته الإنسانية، واستيعابه لها، والتي تعد إحدى أوجه الأبنودي التي لا يعرفها إلا القليل، وهي قدرته على استيعاب البشر باختلافتهم. ولاريب في أن الأبنودي من شعراء العامية المعدودين الذين تمكنوا من الانطلاق بقصيدتهم المصرية للفضاء العربي الواسع من المحيط إلى الخليج، وهو الذي نال أرفع جوائز الدولة في مصر، ولم يتخل أبدًا عن مشروعه الإبداعي الكبير. وبكلماته المبدعة، غنى عبد الحليم حافظ وشادية ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وصباح ومحمد رشدي وماجدة الرومي ومحمد منير، لتصل إبداعاته لأكبر عدد ممكن من الجماهير على امتداد الأرض العربية. ورأى الأبنودي أن "الشاعر صوت الأمة وضميرها اليقظ المنتبه والسابح ضد التيار"، فيما لم يتردد في التنديد بأي تقييد للإبداع أو حجر على حرية المبدع. ولم تخل مسيرة المبدع الكبير من التمرد على القبح والكوابح المتزمتة، ليبرهن على أن الشعر محاولة لا تنتهي للإجابة على سؤال الفن المتمرد على كل معيار وأمثولة وأنماط وأحكام مسبقة، والمنفلت من كل تحديد، والمتحرر من كل الحدود إلا حدود الفن إن كان للفن حدود. ومثلت قصيدة الأبنودي بجوهرها المتفرد، قبس من روح مصر الخالدة تجد طريقها لكل المصريين، كما حدث في قصائد خالدة رددها رجل الشارع في سياقات تاريخية لحركة الكفاح الوطني والنضال القومي، والسعي الإنساني المشحون بالقلق الخلاق للإجابة على أسئلة الوجود الكبرى. وإبداعات الأبنودي تمزج أحيانًا بين الثقافي والسياسي، وحظت بحضور متوهج في ضمير أمته وشاركت في منعطفاتها وتحولاتها الكبرى، بقدر ما آمن بأهمية الشعر في الحياة العربية، ودوره في صياغة معنى جديد لهذه الحياة. ودون غلو، يمكن القول أن الأبنودي يشكل قامة شعرية كبيرة في أمة، أنجبت شعراء كالمتنبي وأبي العلاء المعري وأبي نواس وأحمد شوقي وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وأدونيس وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومحمود حسن إسماعيل وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وممدوح عدوان وسميح القاسم. وإذا كان عبد الرحمن الأبنودي طلب من المصريين ألا ينسوه أبدا بعد رحيله عن الدنيا، فكيف للمصريين أن ينسوا "شاعر البيوت والغيطان" الذي ظل يحلم بالبيوت "كحبات الخرز".. كيف لهم أن ينسوا "فاطمة قنديل" و"أحمد سماعين". وسلام على من قال "أماية وانتي بترحي بالرحى على مفارق ضحى.. وحدك وبتعددي على كل حاجة حلوة مفقودة.. متنسيش يامة في عدودة.. عدودة من أقدم خيوط سودا في ثوب الحزن.. وحطي فيها اسم واحد مات".