لو أدركوا أن طاولة المفاوضات هى نهاية كل حرب أهلية ربما لم يكونوا ليبدؤوا الحرب. لا يكف الشارع المصرى عن الحديث المتكرر فى موضوع الانتخابات البرلمانية القادمة وقوانينها وحكم المحكمة الدستورية العليا، ومن ثمّ الجلسات العرفية بين رئيس الوزراء وممثلى الأحزاب والقوى السياسية، إضافة إلى ما يسمى فى بلدنا الشخصيات العامة، وتتراوح الآراء بين مؤيد ومعارض، أو بين ناقم على الأحزاب أو داعم لها. هذا ويحتل خلفية المشهد الإعلامى أو مقدمته، حسب الظرف، موقف الأزهر من مقدمى أحد البرامج وإذكاء التيار السلفى لهذا الصراع، مع تناحر شديد من مؤيدى هذا التيار وبين معارضيه، واللجوء إلى القضاء لوقف برنامجه، مع الضغط الإعلامى من مناظرات أو التصريح بأوصاف واتهامات من المؤسسة الدينية، ودفوع وحيثيات من مقدم البرنامج ومناصرى الحريات والتحرر من الخطاب الدينى الجامد من ناحية أخرى، إلى أن خرجت أيضا دعوة إلى التظاهر من أجل خلع الحجاب من فوق رؤوس المصريات. رد التاريخى لهذه الأحداث، ولكن للتعليق على المناخ العام الذى تجرى فيه، وما آل إليه نمط تفكيرنا وأساليب ممارساتنا السياسية والاجتماعية، حيث اللجوء إلى الجلسات العرفية فى عديد من المواقف الاجتماعية والصراعات العصبية والقبلية والطائفية، وإن تجاوز هذا القانون وأضعف شوكته وتأثيره إلى أن وصل هذا إلى أدق الأمور السياسية للدولة، فى اللجوء إلى هذه النوعية من الجلسات، وهى مثل سابقتها غير قانونية، وإن كان الفارق الأهم أنها غير ملزمة لأى من الأطراف المشتركة فيها، بحيث ليس هناك ما يجبر الحكومة على الأخذ بنتائج الجلسات، وإن تم التوافق عليها، وعلى الجانب الآخر ليس هناك ما يلزم المجتمعين بالرضوخ إلى ما ستتخذه الحكومة من صياغات وقوانين، مع عدم الضغط على ذلك إعلاميا، أو عدم اللجوء إلى القضاء لتعطيل قانون أو إجراء ما. أما على الجانب الآخر، حيث الصراع المحتدم بين المتحدثين باسم الفاهمين فى الدين، سواء المؤسسة الدينية أو جانب الإعلام والمعلقين، فتراوح خطابهم من احتكار الأمور الدينية على طرف ومحاولة فض هذا الاحتكار على الطرف الآخر، بينما نجد أن المذهل حقا أن الخطابين سجال بين التقديس والاحتقار فى كل ما يتناوله كل منهم، إن كانوا أشخاصا أو موضوعات محط خلاف فى غياب مريب للموضوعية، أو أى محاولة لفهم الآخر، أو التفاهم إن عزَّ الفهم، أو على أقل تقدير إفهام جمهور المصريين جوهر ما يدور بصدق، وبعض من الشفافية، ومزيد من الحرية إن أمكن. إنه مع اختلاف الموضوعين من حيث المضمون، إلا أن معالجتهما وتناول تداعياتهما لم يختلفا إلى حد بعيد من حيث الدفع بالأمور السياسية والاجتماعية فى ساحات القضاء، وإقحامه فى ما لا يناط به، حيث يؤدى به حتما إلى ازدواجية بين الأحكام القضائية والمواقف السياسية من ناحية، ثم بين الأحكام والأوضاع الدينية والشرعية على الجانب الآخر، مما يؤدى إلى اضطراب الوضع السياسى والاجتماعى، كما يؤدى بالتأكيد إلى التشكك فى النظام القضائى، الذى يقحم بحسن نية أو غير ذلك فى الشؤون السياسية والاجتماعية التى جعل لها ميادين أخرى للفصل فى ما يشتبك منها. إنه وإن كانت هذه الأنماط السلوكية من أوصاف المراحل الانتقالية، خصوصا التى طالت لدينا بسبب غياب المؤسسات السياسية لصالح السلطات التنفيذية لأكثر من ستين عاما، فقد أصبح لزاما علينا أن نضع كل مجال فى موضعه الصحيح، خصوصا مجال السياسة، لأن به تنضبط أغلب المجالات الأخرى، وتنفصل السلطات، وتتضح مهامها وواجباتها، وأهمها انتزاع المواقف السياسية من محيط القضاء، وهذا لن يتأتى إلا بانعقاد البرلمان القادم، إلا أن الأولوية الآن هى لصالح خوض التجربة بكل ما لها وما عليها، على أن نترك مسألة إنضاجها تبعا لتفاعلات المستقبل وتقلبات الزمن، علّنا نصل فى زمن قليل إلى ما وصلت إليه دول عريقة فى الديمقراطية، لينعكس ذلك مباشرة إيجابيا على الحياة اليومية للمواطنين المصريين ككل الدول الديمقراطية الحديثة.