بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها فى مايو 1945، انطلق العالم كله ليرتب حساباته من جديد، ويهدم بيوتا قديمة، ليبنى مكانها بيوتا حديثة، وعلى المستوى العالم العربى نشأت فى غضون تلك الأيام جامعة الدول العربية، لخدمة أغراض مختلفة، منها المعلن ومنها المضمر، ومنها الصالح ومنها الطالح، وهنا بالطبع يختلط الحابل بالنابل، فلا يعرف المرء لماذا حدث هذا، ولماذا نشأ ذاك. وعلى مستوى الأدب والفن والفكر فى عالمنا العربى، راح كثيرون يتساءلون عن الهوية، وكان نجيب محفوظ قد خطط لمشروع ضخم عن الرواية التاريخية، التى تعود إلى الحياة المصرية القديمة، وبالفعل كتب رواياته «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة» فى تلك السنوات، ليس للعودة إلى الخلف، بل لاكتشاف الجذور والأعماق حتى نتعرّف على أصولنا التى تحركنا وتوجهنا، وعلى هذا الأساس نكون واعين لتلك الأصول، ونستمد منها ما يصلح لنا، ونهمل ما لا يصلح، ولكنه فى ظل الأحداث الجديدة على المستوى السياسى والاجتماعى والفكرى، انتقل إلى مرحلة أخرى تكون أكثر تعبيرا عن تلك المرحلة الجديدة، فكَتَب «السراب» و«زقاق المدق» و«القاهرة الجديدة» وغيرها من كتابات أخرى. وعلى مستوى الشعر، اتفق مؤرخو ودارسو الأدب أن عام 1947 هو العام الذى بدأ فيه التمرد على أشكال الشعر الجديدة، ففى العراق كتب الشاعر بدر شاكر السياب قصيدة «هل كان حبًّا؟»، وكتبت الشاعرة نازك الملائكة قصيدة «الكوليرا»، واعتبر النقاد أن هاتين القصيدتين قادتا الشعر العربى كله إلى حالة التجديد الكبيرة التى شملت جميع الشعراء فى العالم العربى، وظهر بعد هذه الانتفاضة الشعرية عبد الوهاب البياتى وعبد الرحمن الشرقاوى وكمال عبد الحليم وصلاح عبد الصبور وآخرون. ولكن فى العام نفسه أصدر الشاعر والأستاذ الجامعى الدكتور لويس عوض ديوانه الأول والأخير، وكان عنوانه غريبا جدا على القرّاء، وكتب له عوض مقدمة تتسم بالانفعال الشديد والعصبية، وكان عنوانها «حطّموا عمود الشعر»، ورغم أنه قدم أفكارا صحيحة فإن جمهور الشعر والنقد فى العالم العربى لم يستقبلوها كما استُقبلت قصيدتا السياب والملائكة، وهذا يعود لأسباب كثيرة، وربما لأن لويس عوض لم يستكمل مشروعه الشعرى، وربما لأن كثيرين تعاملوا مع عوض وإبداعه على أنه إبداع رجل أكاديمى، يريد أن يطبّق نظريات درسها فى الغرب الاستعمارى، وزعم آخرون فى ما بعد أنه يريد هدم اللغة العربية، وربما لأن الديوان فيه تنويعات كثيرة من الأشكال الشعرية، ولم يتوقف عند غرض شعرى واحد. ورغم ذلك فكثيرون يضعون لويس عوض ضمن طائفة وفريق الشعراء المجددين، بل الأكثر من ذلك، أدرجت أسماء أخرى ضمن هذا التجديد، مثل على أحمد باكثير ومحمد فريد أبو حديد، والأكثر إيغالا فى إدراج أسماء أخرى مثل الشاعر خليل شيبوب، وقد نشر قصيدة فى مجلة «أبوللو» عام 1933، وقدّمها الشاعر فاروق شوشة منذ عدة سنوات، وكتب شوشة تقديما نقديا حول القصيدة، لنضعها فى الاعتبار عندما نتحدث عن المقدمات التى حدثت قبل الثورة الشعرية الكبرى التى جاءت على أيدى كل من ذكرناهم سلفا. ومن المعلوم أن مصر الشاعرة كانت مهدا لنظريات وحركات شعرية موّارة، منذ عصر الإحياء الذى قاده الشاعر محمود سامى البارودى، ربّ السيف والقلم والشريك العسكرى الضالع فى الثورة العربية، ثم العصر الذى تلاه، وأنجب كوكبة من الشعراء مثل حافظ إبراهيم وأحمد شوقى ومَن حولهما، ثم كانت مدرسة الديوان التى أبدعت عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى وعبد الرحمن شكرى، وهم الذين تمردوا على المدرسة اللفظية والتقليدية فى الشعر، وكتبوا أشعارا كانت مقدمة طبيعية وقوية لمدرسة «أبوللو» فى ما بعد، التى كان روادها إبراهيم ناجى وعلى محمود طه ورهط كبير من الشعراء. وفى هذا السياق نشرت صحيفة «البلاغ» الأسبوعية فى 6 أبريل عام 1928، أى فى وقت سابق جدا، قصيدة مكتملة الأركان من الناحية التجديدية، ضمن ملفها الشعرى، وكانت القصيدة للشاعر على شوقى، وأزعم أنه ابن أمير الشعراء أحمد شوقى، الذى كتب كتابا بعد رحيل والده، وكان عنوانه «أبى شوقى»، وأعتبر أن هذه القصيدة هى القصيدة الأسبق زمنيا من كل القصائد التى ذكرناها، وهذا يثبت أن مقدمات الثورة الشعرية فى مصر كانت قوية وسابقة على غيرها من الأقطار العربية الأخرى، ولذلك أنشرها هنا لتكون بين أيدى الباحثين والمؤرخين لتوضع فى الاعتبار، وإليكم القصيدة: مناجاة الطائر للشاعر المجيد صاحب الإمضاء أيها الطائر غرّد ما تشاء لست أدرى ما تقول لست أدرى ... أعِد اللحنَ وشنّف مسمعى حسب عينى حسب قلبى الموجعِ إننى انهلت عليه أدمُعى بعد أن أزمعت نسيان البكاء وزكت نار الخليل خلف صدرى .... قف وطارحنى أناشيد الهوى فكلانا عاشق يشكو الجوى شفّه الوجد وأضناه النوى غير أنى من عذولى فى عناء عيل صبرى بالعذول عيل صبرى .... يا لقلبى هل لقلبى من طبيب؟ وحبيبى معرض وهو الحبيب يسمع الشكوى ولكن لا يجيب ولديه برء قلبى لو يشاء ليت شعرى هل يميل؟ ليت شعرى .... ربما مال ولكن لا إلىّ وانثنى لكن بلا عطف علىّ يا لقومى لشجىّ من خلىّ يا لقومى - ولكم طول البقاء بت من وجدى أقول ضاع عمرى «على شوقى») هذا هو النص الذى نشرته «البلاغ» الأسبوعية، وعلى الباحثين إدراجه فى الاعتبار لجدته، وحداثة طريقته، رغم أنه يشتبك مع أشكال أخرى فى الكتابة، ولكنه يتفوق، بل يختلف كليا مع كل ما كان يكتب فى تلك الأيام.