إذا كانت السينما المصرية بدأت في أوائل القرن العشرين على يد عدد كبير من الرواد، الذين أسهموا في دخول السينما إلى المحروسة، مثل الخواجة ستولوجو، الذي أقام أول دار عرض في مسرح الهمبرا بالإسكندرية، والمخرج محمد كريم الذي قدم أول فيلمين روائيين عام 1917 في الإسكندرية أيضًا. فإن السيدات كان لهن نصيب الأسد في الريادة السينمائية، فيذكر التاريخ السينمائي أسماء مثل عزيزة أمير أول منتجة سينمائية مصرية، والتي قدمت أول فيلم مصري صامت عام 1928 - وفقًا لتصنيف المتخصصين، الذين لم يعتبروا محاولات كريم أفلامًا بالمعنى الدارج، فكانت الأسبقية لعزيزة أمير، تلتها السيدة أسيا داغر، والسيدة بهيجة حافظ، ولحقتهن السيدة ماري كويني. ربما لم تستمر عزيزة أمير أو بهيجة حافظ للكثير من الأسباب التي لا مجال لذكرها الآن، ولكن أسيا وماري كويني استمرّتا في العمل، لتستحقَّا لقب رائدتي السينما المصرية، من حيث المساحة الزمنية والإسهامات الفنية. أسيا داغر.. ولدت الممثلة والمنتجة أسيا داغر في قرية تنورين بلبنان في 18 إبريل 1901، وبدأت حياتها ممثلة، وقدمت فيلم قصير بعنوان "تحت ظلال الأرز" عام 1922 في لبنان، وكانت مصر قبلة كل الفنانين وقتها، فهاجرت أسيا وشقيقتها ماري إلى مصر وصحبتهن ابنة ماري "وعد"، والتي عُرفت فيما بعد باسم "ماري كويني". في مصر شاركت عام 1927 في أول فيلم مصري صامت "ليلى"، وبالصدفة كان من إنتاج الفنانة عزيزة أمير، وفي نفس العام أسست أسيا شركة "لوتس فيلم" للإنتاج، وكانت من أول خمس شركات إنتاج سينمائي في العالم العربي، إذ عاصرها شركات "إبراهيم وبدر لاما" و"عزيزة أمير" و"بهيجة حافظ"، إلا أن تلك الشركات لم تستطع الاستمرار في حين استمرت "لوتس فيلم". لم تكتفِ أسيا بكونها منتجة سينمائية فقط، بل عاودتها موهبتها القديمة، فقامت ببطولة عدد من الأفلام، بدأتها عام 1929 بفيلم "غادة الصحراء" إخراج وداد عرفي، والذي استقدمته أسيا من تركيا لإخراج هذا الفيلم وأدخلته الوسط الفني المصري، وبعدها تعاونت مع الفنان إبراهيم لاما، الذي أخرج لها فيلم "وخز الضمير" عام 1931، ولكن النقلة الحقيقة في حياتها كممثلة ومنتجة، كانت حينما التقت بالمخرج السينمائي والصحفي أحمد جلال، فكوّنت معه ثلاثيًّا فنيًّا بالاشتراك مع ابنة شقيقتها ماري كويني، والتي تزوجت جلال فيما بعد. وفي عام 1935، وبعدما أثمر التعاون بينها و بين أحمد جلال عن فيلمي "عندما تحب المرأة"، و"عيون ساحرة"، قدمت أسيا أول فيلم تاريخي في حياة السينما المصرية، وهو فيلم "شجرة الدر"، تأليف وإخراج أحمد جلال، وبطولة أسيا وعبد الرحمن رشدي وأحمد جلال. واستمرت في مجالي الإنتاج والتمثيل حتى عام 1947، حينما مثلت فيلم "الهانم" مع المخرج هنري بركات، بعدها اعتزلت أسيا التمثيل وتفرغت للإنتاج، وقدمت أفلامًا مهمة في تاريخ السينما المصرية قاربت على 70 فيلمًا، وإن كان البعض يعتقد خطأ أنها توقفت عن الإنتاج بعد فيلمها "الناصر صلاح الدين"، الذي بلغت تكلف إنتاجه 200 ألف جنيه مصري - وهو رقم ضخم وقتها، بل إنها منحت يوسف شاهين أعلى أجر يمكن أن يعطى لمخرج وقتها وكان 9 آلاف جنيه مصري، والحقيقة أن أسيا رغم خسارتها الفادحة في فيلم الناصر صلاح الدين، استمرت في الإنتاج وقدمت فيلم "اللقاء الثاني" للمخرج حسن الصيفي عام 1967، وفيلم "يوميات نائب في الأرياف" عام 1969 للمخرج توفيق صالح، والذي يُنسب ظلمًا للمؤسسة المصرية العامة للسينما، في حين أن المؤسسة قامت بتوزيعه فقط وفقًا لتيترات الفيلم نفسه. ماري كويني.. ذكرتُ أن ماري كويني هي ابنة شقيقة المنتجة الكبيرة أسيا داغر، والتي هاجرت معها إلى مصر عام 1923، ومعها برزت مواهب ماري المتعددة، فكانت مؤلفة وممثلة ومونتيرة ومنتجة أيضًا، وشكّلت مع أسيا وأحمد جلال ثلاثيًّا فنيًّا مهمًّا في بدايات السينما المصرية، حتى استقلت ماري كويني وأحمد جلال وأسسا استديو جلال كشركة إنتاج بعيدًا عن أسيا، ثم أسست شركة "ماري كوين" عقب وفاة جلال عام 1947. بدأت ماري علاقتها بالسينما عام 1929، في فيلم "غادة الصحراء" من إخراج أحمد جلال وبطولة أسيا، إذ ظهرت في دور بثينة، كما قامت ماري كويني بعمل المونتاج للفيلم، وفي عام 1931 قدمت أول وآخر تجربة كتابة سينمائية لها في فيلم "وخز الضمير"، وقد قامت بمونتاج 6 أفلام، وهي: "غادة الصحراء، وخز الضمير، زوجة بالنيابة، بنت الباشا المدير، فتش عن المرأة، فتاة متمردة". قبل زاوج ماري بأحمد جلال أشيع في الوسط أن هناك علاقة حب تربط بين جلال وأسيا، إلا أن زواجه من ماري وضع حدًّا لكل تلك الأقاويل، وانفصل الثلاثي على المستوى الفني حتى وفاة أحمد جلال عام 1947، فاستقلت وأسست شركتها الخاصة. وقدمت ماري للسينما كمنتجة مستقلة عددًا كبيرًا من الأعمال، كان أولها "السجينة رقم 17" عام 1949، ومن بينها "مكتوب على الجبين" عام 1953، "نساء بلا رجال" في العام نفسه، "قلوب الناس" عام 1954، "إسماعيل ياسين في جنينة الحيوانات" عام 1957، "إجازة صيف" 1966، "مذكرات الآنسة منال" عام 1971، "بدور" عام 1974، وآخرها كان فيلم "أرزاق يا دنيا" عام 1982، كما استقدمت أول معمل للأفلام الملونة في العالم العربي والشرق الأوسط عام 1957.