كتب: محمد الشماع أثار توقيع مصر على وثيقة مبادئ خاصة ب«سد النهضة» مع الجانبين الإثيوبى والسودانى جدلا سياسيا كبيرا حول البنود حسنة النية التى احتوت عليها الاتفاقية. ولما كان لمصر تاريخ طويل مع هذه الاتفاقيات التى تتعامل فيها الدولة بمنطق «حسن النية»، كان لزاما أن نقدم لقارئها رصدا موجزا لبعض من هذه الاتفاقيات التى ربما تكون حققت بعضا من أهدافها، وأخفقت فى تحقيق البعض الآخر. تمهيدا، لا بد أن نعلم أن الاتفاقية هى معاهدة بين دولتين أو أكثر تلتزم بمقتضاها الدول الموقعة عليها بالتزامات قانونية محددة. وطبقا للمتعارف عليه دستوريا فإن الاتفاقيات التى توقعها الدولة تكتسب تلقائيا قوة القانون. ويترادف مع كلمة «الاتفاقية» أيضا لفظ «عهد» الذى ورد فى سياق المواثيق الدولية، لا سيما الخاصة بحقوق الإنسان. أما وثيقة المبادئ فهى ليست ملزمة إلزام المعاهدات والاتفاقيات، ورغم كونها وثيقة استرشادية فإنها تدخل حيز التنفيذ إذا ما التزمت بها الدول الموقعة عليها، فهى أمر أقرب ل«كلام الرجالة» مثلما يقال فى الأدبيات الشعبية. اتفاقيات الاستعمار والجلاء لقد شهدت الدولة عبر تاريخها الحديث عقد عديد من الاتفاقات والمعاهدات ابتداء من معاهدة دمنهور، واتفاق الإسكندرية فى 17 نوفمبر 1840، ومعاهدة لندن1840 عندما أعلن محمد على 1838 عزمه الانفصال عن الدولة العثمانية فأعلنت الدول الأوروبية معارضتها بحجة المحافظة على سياسة التوازن الدولى، وفى عام 1839 هزم المصريون الأتراك واستسلم الأسطول العثمانى لمحمد على فباتت الدولة العثمانية دون جيش أو أسطول فتدخلت الدول الأوروبية، خصوصا بريطانيا، وهددت محمد على بتحالف عسكرى دولى ضده وفرضت عليه معاهدة لندن عام 1840 التى نصت على إعطاء محمد على حكم مصر وراثيا مع بقاء مصر جزءا من ممتلكات السلطنة العثمانية. وكانت الوصاية الدولية التى أفرزتها تلك المعاهدة أدت إلى سيطرة مالية ثم سياسية أجنبية، ما جعل مصر مستعمرة من دون الحاجة إلى معارك عسكرية أو وجود عسكرى أجنبى مباشر. كان موقف الحكومة المصرية بعد ثورة يوليو قويا وواضحا، إذ أصرت على ضرورة الجلاء التام رغم المحاولات البريطانية لاستغلال الأحداث الداخلية التى واجهت المسيرة الثورية فى بداية عام 1954، وتمسكها بوجوب بقاء بعض الفنيين الإنجليز لتشغيل وصيانة القاعدة البريطانية خلال مدة تنفيذ اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى فى 27 يوليو 1954. ولم يجد الجانب المصرى غضاضة فى بقاء هؤلاء الفنيين المدنيين تحت السيادة المصرية، وتم التوقيع النهائى عليها فى 19 أكتوبر 1954 مع إسرائيل.. ذلك أسوأ جدا قد تكون الاتفاقيات الموقعة بين مصر وإسرائيل بعد نصر أكتوبر 1973 من أكثر الاتفاقيات والمعاهدات امتلاءً ب«حسن النوايا»، بدءًا من اتفاقية فك الاشتباك الأولى عام 1974، وهى التى تم توقيعها فى جنيف بواسطة اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس أركان الجيش المصرى، والجنرال ديفيد بن إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى، والجنرال الزيو سيلاسسفو عن الأممالمتحدة. وتضمنت الاتفاقية أن تراعى مصر وإسرائيل بكل دقة وقف إطلاق النار فى الأرض والبحر والجو المنصوص عليه بقرار مجلس الأمن، وأن تمتنعا منذ لحظة توقيع الاتفاقية عن جميع الأعمال العسكرية وشبه العسكرية التى يقوم بها طرف ضد الآخر، مؤكدة ضرورة الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية على أساس أن يعاد توزيع جميع القوات المصرية الموجودة على الجانب الشرقى للقناة، وكذا إعادة توزيع جميع القوات الإسرائيلية بما فيها الموجودة غرب القناة والبحيرات المرة، على أن يفصل بين الخطين المصرى والإسرائيلى منطقة عازلة توجد فيها قوات للأمم المتحدة تتألف من وحدات لدول غير أعضاء دائمين فى مجلس الأمن، بينما يتم تحديد عدد الأفراد والأسلحة بين الخط المصرى وقناة السويس. وهى تقريبا البنود التى اتفق عليها الطرفان فى اتفاقية كامب ديفيد 1979، والتى تركت مصر فيها سيناء مرتعا للإرهابيين، وهو ما ندفع ثمنه إلى الآن. أما اتفاقية فض الاشتباك الثانية التى وقعت فى سبتمبر 1975، فكان من ضمن آثارها أن تلتزم مصر بعدم اللجوء إلى القوة أو الحصار البحرى، وتوافق على مرور البضائع والسلع غير العسكرية المتجهة إلى إسرائيل عبر قناة السويس. ورغم أن إسرائيل قد وافقت على الانسحاب إلى خط جديد يبعد ما بين 20 و 40 ميلا عن القناة تكون بمثابة منطقة عازلة توجد فيها قوات الأممالمتحدة وقيام إسرائيل بتسليم ممرى «متلا والجدى» للأمم المتحدة وتسليم حقول بترول أبو رديس لمصر، إلا أن هذا الاتفاق قد حقق عدة مكاسب استراتيجية لإسرائيل، ففضلا عن المساعدات المادية والعسكرية التى حصلت عليها من الولاياتالمتحدة مقابل توقيعها على هذا الاتفاق فقد قوضت هذه الاتفاقية خيار الحرب لدى السادات، فقد أصبح فى ظلها حبيس اتفاق لا يمكن أن يحل محله غير معاهدة صلح مع إسرائيل كما جاء بالمادة التاسعة منها. أما معاهدة السلام فشابها كثير من «حسن النوايا» بالنسبة إلى الجانب المصرى. نعم، حققت الاتفاقية أهدافها لكنها أخفقت فى ما كان يطمح إليه المصريون، يرى بعض المحللين السياسيين أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لم تحل عديدا من القضايا العالقة بين الدولتين، ومنها مسألة محاكمة مجرمى الحرب من الجيش الإسرائيلى المتهمين بقضية قتل أسرى من الجيش المصرى فى حرب أكتوبر، والتى جددت مصر مطالبتها بالنظر فى القضية عام 2003، فضلا عن قضية الأموال التى تعتبرها مصر «أموالا منهوبة» نتيجة استخراج إسرائيل للنفط فى سيناء لمدة 6 سنوات. ولعل قضية انتزاع طابا عام 1982 من أكثر القضايا الشائكة بين الجانبين والتى حققت مصر فيها انتصارا عظيما. اتفاقيات اقتصادية.. والنتيجة «خسارة» فى مجال العلاقات التجارية وقعت الحكومة المصرية فى عام 2004 اتفاقية الكويز مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل التى تمكن المنتجات المصرية من الدخول إلى السوق الأمريكية دون تعريفة جمركية أو حصص كمية بشرط استخدام نسبة 11.7% مكونات إسرائيلية، وكان من ضمن ما نصت عليه الاتفاقية أن حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة دولة إسرائيل، آخذتين فى الاعتبار الذكرى الخامسة والعشرين للتوقيع على اتفاقية السلام بين الطرفين وراغبتين فى تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية لمصلحة الطرفين، قد اتفقتا على إبرام هذا البروتوكول الذى يجعل الطرفين متفقين على إقامة المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ). الاتفاقية واجهت اعتراضات كبيرة من المصريين، ولم تحقق أهدافها حتى الاقتصادية. أما اتفاقية تصدير الغاز المصرى لإسرائيل (2005) فحدّث عنها ولا حرج، لا سيما فى الثمن البخس الذى وافقت الحكومة المصرية على تصدير الغاز به. وعلى الرغم من أن القاصى والدانى يعلم مدى تأثير الاتفاقية على الاقتصاد المصرى، فإن المتهمين فى قضية «تصدير الغاز» التى نظرتها المحاكم بعد ثورة يناير وعلى مدار أربع سنوات، وأولهم وزير البترول سامح فهمى، قد حصلوا جميعا على البراءة. الاتفاقية باختصار نصت على تصدير مصر لإسرائيل 1.7 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعى لمدة 20 عاما بثمن يتراوح بين 70 سنتا و1.5 دولار لمليون وحدة حرارية، بينما يصل سعر التكلفة 2.65 دولار. حقنا فى النيل بما أن موضوع الأزمة هو توقيع مصر ممثلة فى عبد الفتاح السيسى على وثيقة «سد النهضة»، فلا بد من ذكر 5 اتفاقيات ثنائية وقعت مع دول إفريقية فى شأن الحفاظ على حصة مصر من مياه النيل. الأولى كان بروتوكول روما (أبريل 1891)، وتم توقيعه بين كل من بريطانياوإيطاليا وقت الاستعمار الإيطالى لإريتريا، وقد تعهدت إيطاليا فى ذلك الوقت بعدم إقامة أى منشآت لأغراض الرى على نهر «عطبرة» من شأنها أن تؤثر على تدفقات مياه النيل إلى الدول الأخرى، وخصوصا مصر التى كانت وقتها خاضعة للاستعمار البريطانى. الاتفاقية الثانية كانت اتفاقية أديس أبابا (مايو 1902)، إذ وقعتها بريطانيا نيابة عن مصر وإثيوبيا، وتعهد فيها الإمبراطور منيليك الثانى ملك إثيوبيا بعدم إقامة أو السماح بإقامة أى منشآت على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها أن تعترض سريان مياه النيل، إلا بموافقة الحكومة البريطانية والحكومة السودانية مقدمًا. أما اتفاقية لندن (ديسمبر 1906) فكانت الثالثة، وتم توقيع هذه الاتفاقية بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وينص البند الرابع منها على أن تعمل هذه الدول معًا على تأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر، فى حين اعترفت إيطاليا فى اتفاقية روما (1925) بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان فى مياه النيل الأزرق والأبيض وروافدهما، وتتعهد بعدم إجراء أى إشغالات عليهما من شأنها أن تنقص من كمية المياه المتجهة نحو النيل الرئيسى، فى حين كان لإطار التعاون الذى وقع بين مصر وإثيوبيا (يوليو 1993) دور كبير فى تحسين العلاقات الثنائية حتى محاولة اغتيال حسنى مبارك، الذى انقلبت بعده الموازين، لتدب روح العداوة بين القاهرة وعدد من عواصم القارة السمراء.