ذات ليلة رنّ تليفونى المحمول، وقال محدّثى: الحق قالوا عليك فى برنامج (.....) إنك «لا دينى»، والست الضيفة قالت فيك أكثر مما قال مالك فى الخمر، والضيفة كانت صحفية معروفة وناقدة مسرحية ثم «التزمت» كما يصفها شيوخ التيارات الدينية، ورأيت البرنامج مسجلًا، وتعجبت فالسيدة انهالت على عدد كبير من الكتاب تقطيعًا بالاسم، والمذيع فارغ الفاه دهشة وعجزًا عن الرد، لأن الموضوع كان أكبر كثيرًا من ثقافته المحدودة، بل لم يتمسَّك بأبسط أدبيات المهنة، وهو عدم الإساءة إلى أحد غير موجود ولا يستطيع الدفاع عن نفسه! بالطبع كان المذيع وبرنامجه هو التطور الطبيعى ل إعلام المصطبة ، بعد سنوات من انطلاقه فى أوائل الألفية، ثم تشكَّلت نماذج كثيرة كلٌّ بطريقته فى الشرح والإسهاب والتشويح، ثم صنع الأستاذ توفيق عكاشة نقلة نوعية، لم تخطر فى بال المؤسس، فصار يخاطب الجمهور بكلمات شخصية كالتى تقال بين قعدات الأصحاب فى السمر والسهر، ويقسم بالله وبشرفه، ويخاطب معدِّى البرنامج والمخرج، ويخرج على النص مع المذيعات، وعلى الرغم من هذا كان توفيق عكاشة واعيًا تمامًا بما يفعل، ويتصرَّف مثل فنان فى شادر شعبى، وكان أحيانًا يقدّم معلومات لا يعرفها غيره، وله مواقف شجاعة. وفى الحقيقة كان كل الإعلام المصرى بكل تصنيفاته ودرجاته المهنية فى غاية الشجاعة فى زمن الإخوان، ولعب دورًا محوريًّا فى ثورة 30 يونيو، وكان يمكن أن تكون نقطة انطلاق لنوع مختلف من المعلومات والحوار والتوعية والتعليم، لكن الطبع يغلب التطبع، وهو يذكّرنا بأحوال المصريين فى ميدان التحرير وميادين مصرية أخرى خلال 18 يومًا رائعة من ثورة 25 يناير، منتهى التحضر، حتى تصوّرنا ومعنا العالم أجمع أن المصريين انصهروا فى أتون الثورة وتخلّصوا فى نيرانها من كل الصفات والتصرفات السيئة وخرجوا شعبًا جديدًا! وهكذا كان الإعلام فى 30 يونيو وسرعان ما عادت ريما لعاداتها الخبيثة القديمة. المشكلة أن الإعلام رافعة مهمة فى تنمية أى مجتمع، خصوصًا إذا كانت نسبة الأمية بشقَّيها التعليمى القديم أو الثقافى الحديث تتجاوز حد الأمان بكثير، وصارت ملوثات الإعلام خطرًا على مصر نفسها، من جراء حالة غوغائية تلبَّست الجميع، وصارت عُرفًا معمولًا به فى كل جنبات المجتمع، فى مناقشة كل القضايا تقريبًا: محاكمات شخصيات نظام مبارك، محاكمات النشطاء، مباريات كرة القدم، العنوسة والعفاريت والجن والجريمة، أفلام السينما، حتى وصلت اللغة التى يتخاطب بها الناس إلى درك منحط! ولا أحد يطلب من الإعلام دروسًا فى الوعظ والإرشاد، فالجاذبية مهمة والإثارة عنصر فعال، لكن دون ابتذال وترخّص، وحبّذا لو أدرك كل نجوم الإعلام أن المصريين فى حاجة إلى معلومات وثقافة وتعليم ومعرفة أكثر من التسخين والتخمين والانطباعات والأقوال المرسلة. وأول خطوة هو صناعة ميثاق شرف مهنى كالمعمول به فى الدول المقدمة، وتعديل تشريعى يفرض عقوبات صارمة على المنفلتين، بغرامات باهظة مثل التى نسمع عنها فى بريطانيا، والأهم أن يُعاد تدريب كل الكوادر تقريبًا فى فضائيات عالمية لفترة، وأن تنظّم التشريعات عمل وكالات الإعلانات التى صارت سيدًا جبارًا متحكِّمًا فى المصائر وموجهًا لشكل البرامج من تحت لتحت!