أعتبر نفسى محظوظا فأنا من جيل لحق بالكاد باب المعرفة والثقافة الرفيعة قبل لحظات قليلة من إغلاقه بالضبة والمفتاح، وأظن أن بعضا من أقرانى وأبناء جيلى ربما قُفل هذا الباب على أياديهم أو أطراف أصابعهم، فعاشوا حتى الساعة للأسف بعاهة نصف ثقافة ونصف جهل.. ما علينا، فالعبد لله مثلا تيسر له مبكرا جدا (فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى وكنت ما أزال فتى صغيرا) قراءة أعمال مسرحية عدة كتبها مبدعون عمالقة، مستلهمين الأسطورة اليونانية ذائعة الصيت التى تحكى مأساة الثلاثى، الملك «أجاممنون» قائد الحملة الظافرة على طروادة، وابنته «إليكترا» وابنه «أوريست»، فضلا عن الزوجة والأم الخائنة «كلمينسترا». لقد كان أول ما وقع فى يدى من هذه الأعمال ترجمة مجهولة لمسرحية الذباب بتوقيع الفيلسوف والأديب الفرنسى الأشهر جان بول سارتر، غير أننى تابعت بعد ذلك (فى مطلع سنوات الجامعة) قراءة نصوص أخرى مقتبسة عن الأسطورة عينها أهمها ثلاثية الأوريستية نسبة لأوريست ابن الملك التى أبدعها كاتب اليونان القديمة الأعظم أسخيلوس فى ثلاثة أجزاء، كل جزء منها حمل اسم واحدة من شخصيات الأسطورة آنفة الذكر. لكنى مدين بفهم الجوهر العميق لهذه الحكاية المأساوية ومعناها الإنسانى، ومن ثم الوعى بالفروق بين معالجاتها الدرامية المتعددة والمختلفة التى اضطلع بها كُتاب ومبدعون معاصرون كبار، مدين بكل ذلك لمقدمة ضافية وافية كتبها الناقد الكبير الراحل درينى خشبة فى مستهل ترجمة مسرحية إليكترا للمسرحى الفرنسى الفذ جان جيرودو وقد راجع النص (الذى نقله للعربية الدكتور محمد غلاب) أديبنا العظيم يحيى حقى، وكان هذا السِّفر القيم صدر فى ستينيات القرن الماضى عن سلسلة روائع المسرح العالمى التى أمتعت وثقفت جيلا كاملا بإبداعات خالدة منها فى الموضوع ذاته تحفة أبو المسرح الأمريكى المعاصر يوجين أونيل التى حملت اسم الحداد يليق بإليكترا . لا مفر هنا، من أن أقطع السياق لأبلغ القراء الأعزاء بأن كل هذه الذخائر القيمة كانت (مع غيرها من الذخائر والسلاسل) من منتجات وزارة الثقافة المصرية وكان السعر المدون على أغلفتها آنذاك يتراوح بين 10 و15 قرش صاغ.. هل يتذكر أحد عملات بهذا الاسم أو القيمة الآن؟! أظن أن الحداد و الحزن على هذا الماضى القريب يليق بنا حقا، تماما كما يليق بالآنسة إليكترا التى عاشت أغلب سنوات عمرها تتجرع مع شعب مدينة آرجوس مرارة حزن مضاعف ومأساة متعددة الأبعاد، إذ بينما الشعب يكابد قسوة حياة الذل والقهر تحت حكم الطاغية إيجست الذى جلس على سدة الحكم بعد مقتل والدها أجاممنون ، فهى تطوى ضلوعها على سر رهيب، لأنها الوحيدة التى تعرف أن أباها الملك راح ضحية مؤامرة دنيئة نسجتها أمها كليمنسترا ونفذتها بيد عشيقها إيجست نفسه، بيد أن شقيقها الغائب أوريست يعود ذات يوم لينتقم لنفسه وأبيه ولشعب المدينة، ليس فقط من الطاغية المجرم الذى قتل والده، ولكن أيضا من أمه التى خانت الأب والوطن.. لقد قتل كليهما وترك أخته تتعذب وتتمزق بين متناقضات رهيبة، فهى تتعاطف، بل تواطأت وحرضت أخاها، لكنها الآن تكابد أيضا شعورا موجعا بالندم، لأن هذا الأخير سقط فى مستنقع الكراهية والانتقام لأبيها الذى كانت تعشقه وتكاد تتماهى فيه. تلك هى عقدة إليكترا التى صاغ نظريتها عالم النفس العبقرى سيجموند فرويد !