فى 30 ديسمبر 1974 كتبت الأديبة السورية مقالًا تحت عنوان «امرأة قاتلة = رجل»، وذكرت فيه أن ثلاث سجينات عربيات فى سجن النساء فى -عالية قرب بيروت- نجحن فى الفرار من السجن، ولم تعتبر ذلك مكسبًا على الإطلاق، رغم أنه نجاح شكلى يبرز قوة المرأة فى مواجهة القهر، ولكن نضال المرأة الإنسانة لا يسعى بأى شكل من الأشكال للهروب من سجون أو ساحات العقاب الطبيعية، بل إن ملايين النساء العربيات عليهن أن يهربن من سجونهن الأخرى، هذه السجون التى شيّدتها تراكمات تاريخية عتيدة، وهى سجون العرف والعادة والخوف والقهر والموت سرًّا والخجل من عواطفهن وأحاسيسهن وحقوقهن. وتعتبر هذه الفقرة السابقة، والتى صغناها بطريقتنا، مقدمة لقراءة ما أسماه الناقدون المحترفون الأدب النسوى ، رغم أننى لست ميّالا لاستخدام مثل هذه المسميات، والتى أعتبرها مجرد غوايات نقدية، يستخدمها البعض لإلصاق بعض الخصائص لما يتناولونه من نصوص أدبية. وجدير بالذكر أن كاتبات كثيرات كتبن عن السجن، بعضها مذكرات وذكريات، مثل لطيفة الزيات ومليكة أوفقير وفاطمة أوفقير وزينب الغزالى ونوال السعداوى، وأخريات كتبن نصوصًا فنية مثل فتحية العسال ورضوى عاشور وأخريات، ولكن تظل رواية العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء ، هى النص الأبرز والأجمل والأكثر اشتباكًا مع حالة السجن، ولم تدع الراوية أو الكاتبة أنها ستكتب عن نساء الطبقة المرفهة، أو عن ساكنات الأدوار العليا فى المجتمع، ذوات الأيدى الناعمة، والمساحيق المزيفة للحقائق الأزلية، أو عن المثقفات اللاتى يردن أو يزعمن تغيير المجتمعات، بل نجد الكاتبة اخترقت كل حواجز التعالى والادعاء والزعم، واستجابت لصرخات نساء يعشن فى قاع المجتمع، وارتكبن الجرائم تحت ضغوط قاهرة وكافرة وظالمة، وعلى رأسهن السيدة عزيزة بطلة الرواية، والتى قررت أن تجهّز عربة شبه ملكية، وستجمع فيها النساء المقهورات، وهن إيراد السجن اليومى. هنا لا مساحيق ولا تزييفات، ولا أقنعة، ولا ثياب كثيفة تتسر خلفها أجساد مجرمة، الراوية تعترف أن كل النساء المرشحات لركوب العربة الذهبية، مذنبات، وارتكبن جرائم قتل وسرقة ودعارة ونصب، ولكن الرواية تذهب فى تحليل سردى ممتع لتتقصى الحقائق الدامغة التى تدين النساء حسب التكييف القانونى، هذا القانون الذى صاغته أذهان وعقول قاهرة، عقول جبارة وظالمة عبر التاريخ، وهنا لا توجه سلوى بكر إصبع الاتهام إلى هذا الرجل المسكين الطامع فى جسد المرأة أو مالها أو خضوعها الذى يحقق بعض ذكورته، ولكنها توجه سهام نقدها إلى هذا التراكم الاجتماعى التاريخى عبر أزمنة قديمة وسحيقة، هذا التراكم الذى تحميه نصوص وقوانين ولوائح، وتحرسه طبقات متسلطة تنهب المرأة والرجل معا، وهكذا تعتبر الرواية مذكرة دفاع عن الإنسان المقهور عدة مرات، مرة لأنه أنثى يخضع لكل أشكال الطمع الجسدى، ومرة لأنه فقير لا يستطيع أن يفى بحاجاته الاجتماعية الضرورية والدنيا، وبالتالى تقهره الحاجة إلى الغير الطبقة أو النوعى أو الجنسى، وتستمر عملية القهر الشائكة دون أدنى حلول، ويظل الاستخدام السيئ للنصوص الدينية والفكرية بشكل يخدم السلطة المتعددة الوجوه على مر التاريخ. هذه الرواية التى صدرت بعد عشرين عاما منذ أن كتبت غادة السمان عن السجن الجنائى للنساء، لم تكن درّة سلوى بكر الوحيدة، بل إنها بدأت الكتابة القصصية منذ زمن بعيد، ولكنها لم تنشر قصصًا إلا فى عام 1979، عندما قرأ الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله بعض قصصها، وأبدى إعجابًا شديدًا بهذه ىالقصص، وتنبأ لها بمستقبل إبداعى كبير، ثم تلقف هذه المبادرة الفنان التشكيلى محمود بقشيش، وأصدر لها أول كراسة قصصية من السلسلة التى كان يصدرها تحت عنوان آفاق 79 ، وكان عنوان الكراسة حكاية بسيطة ، وكانت تنطوى الكراسة على قصتين، ثم أصدر لها بعدها كراسة أخرى فى العام نفسه تحت عنوان الخصبة والجدباء ، وأقام لها أتيليه القاهرة ندوة لمناقشة هذه القصص، وكان الناقد الكبير إبراهيم فتحى هو المناقش الرئيسى، والذى قرأ القصص بروح إيجابية عالية. ومنذ القصة القصة الأولى حكاية بسيطة ، تبحث سلوى بكر فى الهم الإنسانى الجارف الذى يعوق الحياة الكريمة، ونظرة المجتمع الناقصة إلى المرأة باعتبارها المخلوق الأدنى الذى لا يستطيع أن يمارس كامل صلاحياته. فى تلك السنة أو بعدها قليلًا، ذهبت سلوى بكر إلى بيروت لتعمل فى دار الفارابى، وتمارس العمل الصحفى، وحدث الهجوم الإسرائيلى الغاشم على جنوبلبنان، واجتاحت هذا الجنوب بضراوة، وشاركت سلوى بكر فى المقاومة الثقافية، وكان لا بد أن تترك بيروت، لتذهب إلى قبرص، وتعود إلى القاهرة عام 1986، وكان لديها المخزون الإبداعى الذى دفعها إلى إصدار أول مجموعة قصصية، ونالت هذه المجموعة ترحيبا نقديا عاليا، فكتب عنها الناقد الراحل د.سيد حامد النساج، ثم الكاتبة صافيناز كاظم، والدكتورة فريال غزول رئيس تحرير مجلة ألف بالجامعة الأمريكية. وأصدرت بكر سلسلة مجموعات قصصية أخرى، مثل إيقاعات متعاكسة، وأرانب، ومقام عطية، والروح التى تسرق تدريجيا ، وترجمت هذه القصص إلى معظم لغات الأرض، لترشح كاتبتها للتمثيل المصرى فى بلاد ومؤتمرات عديدة. ودوما تتقاطع الكاتبة سلوى بكر فى إبداعها مع الملفات الشائكة، فبالإضافة إلى روايتها العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء ، والتى فتحت فيها قضية المرأة المضطهدة بعدة مستويات، تناولت فى روايتها وصف البلبل ، تحريم المجتمع لمشاعر المرأة الطبيعية فى الحب والجنس والرغبة فى الحياة، عندما أحبت هاجر، الأرملة ذات الأربعين عاما، شابا فى العشرينيات من عمره، واقتحمت سلوى هذه القضية بفنية راقية، لتنتصر إلى الأبعاد الإنسانية المغيّبة والمستبعدة. كذلك كانت رواياتها البشسمورى و أدماتيوس الألماسى ، وطرقت فيها أبواب العلاقات التاريخية بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، وقلّبت التربة المكمورة على أبعاد مغلقة ومستبعدة ومهجورة، وما زالت أديبتنا تبدع وتكتب وتشارك فى الحياة الثقافية والمصرية بامتياز.