عرفتُها أقرب إلى ملاك منها إلى البشر، حتى حين تمارس السياسة أو تتكلم عنها، تفعل ذلك بمنطق إنسانى مثالى يقرّبها من الملائكة أكثر من البشر، شاءت الظروف أن أراها فى أكثر من موضع وهى تسعى جاهدة لشرح المشروع الذى وهبته نفسها بأكثر من أى شىء آخر، أو هكذا استشعرت. فى واحدة من المرات كانت فى نيويورك، فى أمسية دعا إليها حشد من المصريين الناجحين (معظمهم أطباء)، وهى تقف شارحة تفاصيل المشروع ووجهته، بأرقام وإحصائيات، وتفاصيل أدق مما يمكن أن تستوعبه فى مثل هذه التجمعات، ومع ذلك كانت مُصرّة على توثيق كل كلمة وحرف مما تقول، قبل أن تدعو المصريين أن يمدوا أيديهم إلى المشروع النبيل الذى أطلقت عليه اسم «بناتى». عن الدكتورة التى لا ينقصها غير جناحين لتصبح ملاكا يسعى فى الأرض، هَنَا أبو الغار، أتحدث، وهى التى استطاعت بصدق ونبل أن تقدم واحدة من أكثر المساحات المصرية إشراقا ونورا، إذ تمكنت من أن تحول عشرات، بل مئات، من البنات اللائى أرغمتهن الظروف على اللجوء إلى الشارع، بضياعه وقسوته، إلى بَشَر ، لهن كرامة وآدمية، بل فاجأت المجتمع، إن كان لا يزال مهتمًّا، بأن وسط هؤلاء الضحايا أضاءت نجوم وتوهجت مواهب، وأنها فقط لم تنتشلهن من ضياع الشوارع بل أهدت إلينا منهن مبدعات وكائنات تضخّ قوة فى شرايين المجتمع الذى كاد يفرمهن أكثر من مرة، لولا المبادرة، والإرادة، والتصميم، والإخلاص الذى تسلحت به هَنَا أبو الغار ومَن معها، والإيمان بأن العمل وحب الناس، ولأجل الناس، له منطلقات أرقى وأنبل من الشعور بالمنّ، وأن صميم السياسة هو فعل يسعى لأن يعيش الجميع بكرامة. شعرتُ بكثير من الامتنان فى أوقات عديدة، للمعنى الذى كنت أرقب هَنَا أبو الغار وهى تسعى وراءه بدأب وتواضع، وصمت، معنى يختزل قيمًا عديدة، بلا متاجرة ولا مزايدة، فى نفس الوقت كنت أحس بعجزى وأمثالى من الحالمين بوطن عادل للجميع، إزاء حالة الفعل الناجز الذى تمارسه ليل نهار الدكتورة هَنَا أبو الغار، دون افتعال عبر المشروع النبيل لحماية وإنقاذ البنات اللائى أُلقين إلى الشوارع تحت وطأة الظروف. مشروع مؤسسة بناتى تسلمت به هَنَا أبو الغار أمينة مجلس أمنائه، ورانية فهمى المدير التنفيذى للمؤسسة، جائزة ستارز الدولية عن منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، من الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون والأمير عمرو الدباغ، مؤسس جمعية ستارز الدولية المعنية بحماية الأطفال دون الخامسة عشرة، وذلك بقصر كنسينجتون بإنجلترا، لتفوز بين ألف مؤسسة أخرى شبيهة، منها 377 مؤسسة من الشرق الأوسط، بمئة ألف دولار أمريكى للمؤسسة، إضافة إلى عشرين ألف دولار منحة دعم فنى لرفع كفاءة العاملين بالمؤسسة. لم تسنح لى الظروف بالتعرف على الأستاذة رانيا فهمى التى لا بد أنها تحمل من الإرادة والنبل الكثير، مما أهّلها لإدارة فعالة لعمل مثل مؤسسة بناتى ، لكنى ودون قصد حضرت مع هَنَا أبو الغار فى أكثر من موضع، وراقبتها وهى تسعى جاهدة لأن يمد القادرون أيديهم لبناتنا ، هكذا كانت تستخدم الكلمة هن بناتنا ، وأنصت إليها وهى تشرح الآلية التى يدار بها المشروع الحلم، كانت أشبه بفراشة تحلّق هنا وهناك، حاملة اللابتوب، الذى يتحول فى لحظات إلى جهاز إعلامى متكامل يحوى كل المفردات الخاصة بالمشروع واللازم معرفتها، والتأكد منها قبل أن تمد اليد، يد المساعدة الواجبة عليك. هَنَا أبو الغار، أقرب إلى الخجل، وكثيرا ما كنت أحس وهى الحزبية النشطة فى الحزب المصرى الديمقراطى أنها أنقى وأكثر مثالية من العمل السياسى، لكنى أحس الآن بقوتها الضاربة وانتصارها لمفهومها النبيل الذى لا يرى فى السياسة غير العمل بحب لخدمة الناس، الناس الذين لا تتكلم عنهم هَنَا بغير أن تربطهم بالحق فى الكرامة، والحق فى الحياة الكريمة، ولعلها بممارستها فى مؤسسة بناتى تلك الممارسة النبيلة فى صمت قد قدمت النموذج لحب البلد والناس، النموذج لكيف تحب مصر بصدق، وليس بالأناشيد، وليس سعيا لأن تقضم ولو قضمة. هَنَا أبو الغار.. رسالتك وصلت.. علَّمتِنا.