غريب أمر الفتنة، تغير الآراء وتقلب المواقف، تحجب البصائر وتبدل المصائر، ففى الفترة الأولى من خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه، كانت أمور المسلمين تمضى فى وئام، وظلت الخلافات فى حدودها الطبيعية، لكن النصف الثانى من الخلافة شهد حالة من المعارضة السلمية للحكم، بدأت باحتجاج أبى ذر الغفارى على السياسة المالية، والاستئثار بالحكم لصالح بنى أمية، فقد قويت شوكة مروان بن الحكم فى المدينة، وسلطة معاوية بن أبى سفيان فى الشام، حيث كان يعمل الغفارى هناك معلنًا معارضته للبذخ الذى يعيش فيه معاوية. حتى ذلك الوقت كانت ملاحظات أبى ذر مجرد نصح، ودعوة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وظلت كلماته فى إطار الخلاف السياسى بين حاكم وثائر بعيدًا عن الفتنة والعصيان، لكن عثمان نفسه اتهمه بإثارة الفتنة، قائلًا له حسب رواية الواقدى: لكنك تريد الفتنة، وتحبها، لقد انغلت (أفسدت) الشام علينا . اللافت للنظر أن المؤرخين أهملوا سيرة أبى ذر طوال فترتى خلافة أبى بكر وعمر، ثم أفردوا مساحات لخلافاته مع عثمان وولاته فى عدد من الأمصار خصوصا الشام، وحاول البعض تفسير هذا الغياب بأن أبا ذر كان فى الشام بعيدًا عن مركز الخلافة فى المدينةالمنورة. وقد أورد البلاذرى أول إشارة تاريخية عن مكان إقامته عندما قال إنه عاد من الشام فى موسم الحج، وذهب كعادته إلى المدينة لزيارة قبر الرسول، حيث استدعاه الخليفة لمناقشته فى الشكاوى التى كتبها فيه والى الشام معاوية، وقال فيها إنه يحرض الرعية ويتحدث عن إهدار مال المسلمين، ويتلو فى حق بنى أمية الآية الكريمة: وَالذينَ يَكنزونَ الذَّهبَ والفضةَ ولا يُنفقونَها فى سَبيلِ اللهِ فبشّرهم بِعذاب أليم . يقول المؤرخون إن كلامًا وقع بالشام بين أبى ذر ومعاوية، فكتب الأخير لمروان بن الحكم والخليفة يبلغهما أن أبا ذر يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ويؤلب العامة، و أخشى أن تثور منهم فتنة، لأنه يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها عموم الناس ، وطلب عدم عودته إلى الشام. وعندما دخل أبو ذر مجلس الخليفة وجد مروان وكعب الأحبار، فسأله عثمان معاتبًا: لِمَ لم تنته عما بلغنى عنك؟ دافع أبو ذر عن أموال المسلمين وانتقد منح مروان خُمس غنائم الفتوحات الإفريقية، وحصول الحكم بن العاص على مئة ألف درهم، واقتراض الوليد بن عقبة (أخو عثمان لأمه) من بيت مال الكوفة، ورفضه رد الأموال لعبد الله بن مسعود، وكذلك فعل عبد الله بن أسيد الأموى، وعبد الله بن أبى سرح وغيرهما من أقارب عثمان. رد عثمان سائلًا المجلس: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك! غضب أبو ذر ونكزه قائلًا: يا ابن اليهوديين، أتعلمنا ديننا؟ (كعب الأحبار الذى يكنى أبا إسحاق أشهر من أسلم من اليهود، وكان مقربًا وجليسًا لعمر بن الخطاب وعثمان ومعاوية وعبد الله بن عباس). التفت عثمان لأبى ذر قائلًا: ما أكثر أذاك لى، ولأصحابى! الحق بمكتبك . ويوضح البلاذرى أن مكتب أبى ذر كان بالشام، وأنه كان يأتى للحج.. . تدهوت الأمور هذه المرة، ولم يلحق الغفارى بمكتبه، فقد تصاعدت الخلافات وتم نفيه إلى منطقة الربذة القاحلة، حيث مات هناك قبل مقتل عثمان بثلاث سنوات فقط. كان المؤرخون الشيعة يفسرون نقص الروايات التاريخية عن أبى ذر قبل ذلك، على اعتبار أن الخليفة قد نفاه إلى الشام، لكن رواية البلاذرى تثبت أن وجود أبى ذر فى الشام كان للعمل فى الدعوة بإذن من الخليفة وليس نفيا، وهناك روايات أخرى تؤكد أن مثل هذه النقاشات الكلامية الحادة مع الخليفة لم تمنع عثمان من استخدام أبى ذر فى أعمال الدولة، لكن بعيدًا عن مركز الحكم فى المدينة، وكان محامى الفقراء يحمل أفكاره الثورية، وينشرها فى أى مكان يحل به، مما أدى إلى صدامات عديدة مع ولاة عثمان وأبرزهم معاوية. الأهرام كانت تبيع فى أى بلد عربى أكثر من جرائده المحلية للرئيس الحرية فى إنشاء حزب أو جبهة أو تحالف.. المهم أن تكون الأفكار السياسية فاعلة بالحاضر وقادرة على عبور المستقبل أرى حجم إخلاص السيسى وحجم التحديات التى تواجهه.. والرجل يستحق أن يقف الجميع خلفه