لم يكن تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى حول برنامج الاستجواب والتعذيب الذى نفذته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بكل ما تضمنه من وقائع وأهوال وتفاصيل جديدًا بأى حال، فأغلب ما تضمنه من معلومات حول أساليب التعذيب، وسياسات الاستجواب، والشركاء حول العالم وفى قلب المنطقة العربية عبر محطات التعذيب بالوكالة والسجون المحلية التى تسلمت إدارتها المخابرات الأمريكية، تم كشف الكثير منه سواء فى جهود صحفية مختلفة، أو عبر مذكرات عدد من المسؤولين الأمنيين الأمريكيين السابقين، وعبر التسريبات التى كان يمررها للإعلام موقع «ويكيليكس» خلال سنوات ما قبل بداية الربيع العربى فى يناير 2011. الجديد فى هذا التقرير هو جهة إصداره، بما يعنى أنه يمثل أول اعتراف رسمى أمريكى من إحدى مؤسسات النظام الأمريكى صاحبة الصفة، وبالتالى صار التعاطى مع ما تضمنه من وقائع باعتبارها تحوى قدرًا من المبالغات أو لى الحقائق أو الانتزاع من السياق، غير مجدٍّ تمامًا فى الدفاع عن هذه الممارسات، حتى ما تحاول المخابرات الامريكية حاليا غسل سمعتها به بربطها بين تلك الممارسات وبين حماية الأمريكيين والأمن القومى لبلادهم، لم تمنع إدانة تلك الممارسات والتعهد بعدم تكرارها، ولم يمنع كذلك عرضها على الرأى العام. هذا العار ، حسب وصف وسائل إعلام أمريكية مختلفة، فتح مواجهات ساخنة فى المجتمع الأمريكى وعلى الصعيد الدولى، حول مخالفة أمريكا بعلم وتصديق رئيسها السابق، لاتفاقية مناهضة التعذيب، وتعطيل مواد فى القانون الإنسانى الدولى، وخرق القانون الأمريكى ذاته، والأهم الكذب على الرأى العام وعلى ممثليه فى الكونجرس، ودخل النقاش فى تقييم أثر هذا التعذيب البشع، هل كان مفيدا فعلا فى حماية الأمن القومى الأمريكى، أم مرمغ سمعة أمريكا ووضعها فى موضع إدانة قانونية وسياسية وأخلاقية، ووسع مساحة كراهية الولاياتالمتحدة فى العالم، وأعطى الإرهاب مزيدا من المبررات للمواجهة والانتقام. نصف الحقيقة الأمريكية هى صلَف القوة وعدم تورع السلطات الأمريكية عن ارتكاب أى فعل إجرامى وغير أخلاقى لتحقيق أهدافها السياسية، والنصف الثانى أن لديها من داخل النظام ما يسمح للرأى العام أن يعرف كل شىء ولو بعد حين، ويسمح للمؤسسات أن تؤدى أدوارها، وللإعلام أن يبحث ويفتش، وللقانون أن يفرض نفسه. هذا النظام لم تظهر فضيحة واحدة له من أعدائه وخصومه، الصحافة والمؤسسات الأمريكية هى التى فتحت ملف حرب فيتنام وحرب العراق وسجن أبو غريب وجوانتانامو وأخيرًا فضائح التعذيب. فى مصر انشغل الإعلام الذى ما زال يتغذى على أن أمريكا تتآمر على مصر لتقسيمها، بفضح الأمريكان بتوع حقوق الإنسان، ليس لأنه حقوقى يحركه ألم الانتهاكات، لكن لأنه يريد أن يقول لأمريكا اخرسى ولا تعلقى على ما نمارسه من انتهاكات، لأن الهم طايلنى وطايلك ، والجزء الآخر يشكك فى نزاهة المؤسسات الأمريكية، معتبرًا أن كل الهدف من وراء هذا التقرير ليس الحقيقة، ولا الرأى العام، إنما ضربة سياسية لا أكثر من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، الذين ارتكبت فى عهدهم تلك الفظائع. لكن لا أحد اهتم بأن مصر حسب التقرير الموثق كانت محطة تعذيب بالوكالة، حتى الدولة لم تعلق، تنفى أو تؤكد، رغم أنها ممارسات كانت فى عهد سابق، ولا تدين نظامًا جاء بعد ثورتين ليتطهر من أخطاء الماضى. هذه أخبارنا نعرفها من الخارج، وننتظر كل جديد عنها من الخارج، لا أحد فى الداخل يكترث بالحقيقة ولا بحق الرأى العام، ولا بقانون ودستور يجرم التعذيب ويعتبره جريمة لا تسقط بالتقادم. بعض الأمريكان قالوا كنا نحمى أمننا القومى، فماذا كنا نفعل نحن: هل كنا نحمى أمن المواطن الأمريكى؟ هذا الخرس الرسمى والإعلامى لا يجد ما يبرره، حتى بدعاوى الأمن القومى، التى تمنع نشر الوثائق أو الإفراج عنها، لأننا عرفنا بالفعل بعض حقيقتنا. لا نقول لكم أخبرونا من حرق القاهرة فى الخمسينيات، ولا أين وثائق النكسة، ولا ماذا حدث فى يناير وبعده فلذلك حديث آخر، قولوا فقط أى شىء يحترم العقل عما عرفناه بالفعل عن نظام أسقطناه بالثورة، وما زال هناك من يحن لوكيل التعذيب الذى لم ينجح رغم كل ما مارسه ضد شعبه وما خدم به الأمريكان، من حماية نظامه من السقوط، ولا حمايتنا من الإرهاب.