ماذا لو تم حل الحزب الديمقراطى الأمريكى، وخاض الحزب الجمهورى الانتخابات وحده فى مواجهة الأحزاب الصغيرة؟ سأقول لك: سيحصد «الجمهورى» نصف المقاعد على الأقل، وستتوزع النسبة الباقية بين بقية الأحزاب الأصغر. هل تذكرك هذه النتيجة بشىء؟ انتخابات مجلس الشعب مثلاً بعد حل الحزب الوطنى وبقاء الإخوان؟ لكن ما مناسبة هذا الكلام؟ كنت أشاهد أحد برامج الفضائية المصرية، فوجدت الدكتورة آمنة نصير، العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية، وهى تبدى حزنها على ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات المتتالية منذ خلع مبارك، من هيمنة تيار واحد على الحياة السياسية، ثم توصلت الدكتورة إلى الاستنتاج التالى «فى الانتخابات القادمة، ونرجو أن لا تكون بعيدة، ينبغى قصر التصويت على من يحمل الشهادة الإعدادية على الأقل». ذكرتنى كلماتها بما كتبه الدكتور يوسف زيدان قبل أيام تحت عنوان «هل هذه الديمقراطية خداع وتخييل؟»، وجاء فيه «الرأى عندى أن نُقصر العملية الانتخابية فى المرة الأولى على عدد محدود من الناخبين، وهو فى الواقع عدد وفير، فيكون حق الإدلاء بالصوت الانتخابى فى أول مرة نختار برلمانا ورئيسا للجمهورية مقصورا على المتعلِّمين، ثم يصير بعد سنوات مشاعا للجميع». أما الدكتورة تهانى الجبالى، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، فقد تبنت قبل عام من الآن الرأى نفسه ضمن «وثيقة مبادئ الدستور الجديد» التى جاء فيها «مع النظر بالأخذ بالتصويت التمييزى على ضوء المستوى التعليمى وربطه بالهدف القومى لمحو الأمية فى المجتمع المصرى فى مرحلة زمنية معينة»، ومعنى هذه العبارة «المكلكعة» هو أن يُربط حق الناخب فى التصويت بحصوله على شهادة محو الأمية. كما هو واضح، فإن اختصار الكلام السابق، يعنى أن «جهل» الناخبين وارتفاع نسبة الأمية، هو السبب فى تفوق التيار الإسلامى فى الانتخابات، أو على الأقل فى منح تيار واحد -بغض النظر عن موقفه من الديمقراطية- الهيمنة على المسار السياسى، ومن ثم فإن منع الأميين أو «الجهلة» من التصويت سوف يعدل هذا الميزان المائل، ويسمح للتيارات المختلفة بالتمثيل المتوازن فى المجالس المنتخبة. لكن هذه «النظرية» -ولنعترف أنها رائجة بين المثقفين- لا يمكن وصفها فقط بالعنصرية -وهى كذلك- ولكنها أيضًا خاطئة تمامًا، وبعيدا عن الكلام النظرى، لماذا لا نرى النتائج العملية؟ فى انتخابات البرلمان كانت هناك جماعة واحدة منظمة هى الإخوان المسلمون، منحها الناخب أقل قليلا من نصف الأصوات، بينما توزعت بقية الأصوات بالعدل تقريبا على بقية القوى، فحصلت الأحزاب السلفية على 25 فى المئة، وحصلت الأحزاب المدنية على نحو 22 فى المئة، وتوزعت النسبة المتبقية على شباب الثورة، والفلول، وبعض المستقلين. إنها النتيجة التى لم تكن تختلف كثيرا عن النتائج الأمريكية لو -كما قلنا- تم حل الحزب الديمقراطى وخاض الحزب الجمهورى الانتخابات، أو لو تم حل حزب العمال البريطانى وخاض «المحافظون» وحدهم الانتخابات.. إلخ، بل لقد منح المصريون -الذين تبلغ الأمية فى أوساطهم نحو 40 فى المئة- ربع أصواتهم تقريبا للكتلة اليسارية والليبرالية، وبينما يحلو للبعض القول إن الإسلاميين حصدوا انتخابيا ما يزيد على وجودهم الحقيقى، فماذا نقول إذن عن الليبراليين واليساريين الذين صوت لهم مواطن من كل أربعة مصريين (بمن فيهم الأميون)؟ ومن دون حتى أن تمتلك تلك القوى حزبا متماسكًا على الأرض؟ ولا داعى للتذكير بأن تلك النتائج «تحسنت» كثيرا فى الانتخابات الرئاسية، والفارق أن «الحزب الديمقراطى» عاد بعد الحل، فتصدر المشهد مع «الجمهورى»، بينما عجزت الأحزاب الأخرى عن التنسيق رغم امتلاكها الأصوات الأكبر، ومع ذلك نلوم الناخب «الجاهل»؟! دعك إذن من هذه المتاهات، ولنتأمل انتخابات أخرى غاب عنها «الجهلة» والأميون، بل تمتع فيها الناخبون بمستوى تعليمى جامعى فأعلى، فقد انتهت قبل أيام قليلة انتخابات نقابة المعلمين، فماذا كانت النتيجة؟ حصد الإخوان المسلمون 38 مقعدا من أصل أربعين! أما نقابة الصيادلة فقد حصد فيها الإخوان وحدهم 65 فى المئة من المقاعد، واكتسح الإخوان نقابة المهندسين، وغالبية الأطباء، وحصدوا مقعد النقيب حتى فى نقابة الصحفيين، وهى أقل النقابات «إخوانية». أمام هذه النتائج يكاد المرء يتخيل أن وجود بعض الأميين ربما كان سوف «يحسن» من هذه النتائج، على الأقل كان ليجعلها شبيهة بنتائج البرلمان والرئاسة! لماذا إذن يقترح بعض المثقفين حرمان «الجهلة» من التصويت؟ السبب فى رأيى أنهم لا يعرفون معنى كلمة «الجهل»، ويخلطون بين «الجهل» و«الأمية»، الفلاح الأمى لا يحتاج إلى دخول الجامعة ليعرف من هو النائب الذى يمكنه التواصل معه والوصول إليه، والعامل الأمى لا يحتاج إلى دكتوراه كى يعرف أن صاحب العمل يستغله. أما «الجهل» فلكى نفهمه ينبغى الرجوع إلى القاموس: (الجهل: هو تصور الشىء على خلاف ما هو فى الواقع)، أرجوك تذكر ذلك حين تسمع أن مرسى مرشح الثورة، وشفيق مرشح المدنية!