فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، عندما عرضت إدارة مسرح «الكوميدى فرانسيز» فى باريس على مخرجنا الراحل الكبير يوسف شاهين أن يغادر مؤقتا مملكته السينمائية، ويختار نصا مسرحيا يتولى هو إخراجه، ليعرض ضمن برنامج عروض هذا المسرح الفرنسى العتيد، فإن شاهين حسبما أظن لم يفكر ولا تردد كثيرا قبل أن يقع اختياره على نص مسرحية «كاليجولا» بالذات، التى يعتبرها كثيرون واحدة من أبرز وأقوى إبداعات الكاتب والروائى والمسرحى الفرنسى ألبير كامو «1913-1960». وبدوره فإن كامو نفسه كان انتقى، وهو بعد فى بداية بواكير إبداعه وشبابه، سيرة الإمبراطور كاليجولا، الذى حكم روما أربع سنوات «من سنة 41 إلى 37 ق.م» متوسلا بطغيان وجنون ديكتاتورى مطلق، لكى تكون هذه السيرة ذريعته لاقتحام العوالم النفسية المعقدة للحكام الذين يأخذهم غرور السلطة المطلقة إلى درجة الخبل العقلى الكامل. وعند العبد لله أن الأسباب التى وقفت وراء اختيار كل من يوسف شاهين وألبير كامو قصة هذا الإمبراطور الرومانى الذى كان اسمه «قبل أن نعرف وتعرف الدنيا معنا طغاة مجانين من نوع الأستاذ معمر القذافى» يكاد يكون دالا بذاته على أنماط حكم وحشى سادر فى العبث واللا معقول، هى أسباب متشابهة تماما.. فبالنسبة إلى كامو فقد كتب «كاليجولا» فى عام 1938، بينما كانت أوروبا فى قلب العواصف النازية والفاشية التى أطلقها قادة ممسوسون بجنون دموى دفعت شعوبهم والبشرية كلها ثمنا باهظا له، من أمثال هتلر وموسولينى أساسا ومن خلفهما أتباع مخلصون من شاكلة فرانكو «إسبانيا» وسالازار «البرتغال». أما شاهين فأسبابه -التى أرجحها- لاختيار نص «كاليجولا» تبدو أوضح من أن تحتاج إلى أى شرح، إذ يكفى أنه كان يعيش معنا فى المنطقة الوحيدة من هذا العالم التى دخلت القرن الحادى والعشرين بينما هى ما زالت تحتفظ بناد ضخم، يتجمع فيه أغلب الحكام الطغاة والمجانين الباقين على سطح كوكب الأرض. وأعود إلى «كاليجولا» وأساطير القسوة والشذوذ التى تنسب إليه، ومنها أنه اعتبر نفسه إلها تمتد سلطته من البشر الذين يحكمهم ويتحكم فيهم إلى نواميس الكون والطبيعة، فمرة يطلب أن يأتوه بالقمر من مرقده فى السماء، ومرة أخرى يصدر قرارا بتغيير مسار الشمس، ويحزن ويبكى بحرقة عندما يجد أنها لم تستجب لقراره وظلت على عادتها الأبدية، تشرق من الشرق، رغم أنه أمرها أن تولد كل صباح من الغرب! ومن آيات جنونه وساديته الدموية أنه كان يقول «عندما لا أقتل أشعر بوحدة قاتلة» و«أرتاح وتستقر نفسى وأنا بين جثث الموتى».. كما اعتبر نفسه مميزا بين خلق الله بكونه الوحيد الذى يسرق علنا ومتباهيا، ومن ثم أضحت العبارة المنسوبة إليه «أما أنا فأسرق بصراحة»، حكمة ومأثرة مستقرة تقال فى كبار النهابين واللصوص. ويقال إن من نوادر شذوذ كاليجولا وخبله، أنه لما لاحظ خلو عهده من المجاعات والأوبئة، وأن ذلك قد يكون سببا لئلا تتذكره الأجيال المقبلة، قرر أن يصنع بنفسه مجاعة تاريخية لشعبه، فأمر بإغلاق مخازن غلال الإمبراطورية وراح يستمتع بصرخات أهل روما من قرص الجوع فى أحشائهم! لقد استفاد كاليجولا ككل الطغاة من استسلام شعبه وجميع المحيطين به للخوف، وراح يتمادى ويغوص أكثر وأكثر فى جنون العظمة حتى ارتكب حماقة لم تكن الأسوأ بين حماقاته، لكنها تفاعلت وتفاقمت نتائجها حتى أودت بحياته فى النهاية.. ففى ذات يوم فاجأ الإمبراطور المجنون أعضاء مجلس الشيوخ من أعيان روما بدخوله عليهم قاعة المجلس ممتطيا حصانه، فلما أبدى أحد الأعيان شيئا من الدهشة والامتعاض، علق كاليجولا ساخرا: لماذا يبدو هذا العضو الموقر معترضا على دخول حصانى الموقر إلى مجلسكم الموقر؟ ألا يكفى أن هذا الحصان هو الذى يحملنى إليكم ليكون موقرا ومبجلا أكثر من السيد العضو الموقر المعترض؟! لم ينتظر كاليجولا جوابا من أحد، بل أجاب هو جوابه المدوى، بأن أعلن فى التو واللحظة ووسط تهليل واستحسان جيش المنافقين، قراره بتعيين حصانه الموقر عضوا فى مجلس الشيوخ الموقر!