يبدو المثقف الحداثى وما بعده هشا وقلقا، ويحمل فى أعطافه ورؤاه ومقارباته الشك، والإثارة الدائمة للأسئلة حول مقارباته، وأفكاره، وما تحصل عليه من معرفة، بل وغالبا ما يطرح الأسئلة حول الأسئلة، وعليها والخطاب حول الخطاب ورائده عدم اليقين، والنظرة النسبية للأمور والظواهر والأفكار والرؤى. المثقف الحداثى وما بعده والكونى هو نقيض للأيديولوجى ومغاير لدور الداعية ورجل الدين، وكل من يعتصمون بالأفكار والسرديات الكبرى والنظم الحاملة للحقائق المطلقة، لأن فضاءاتها تدور حول الإيمان والراحة العقلية والروحية التى تترتب عليها. المثقف الحداثى والكونى وما بعده يختلف عن كهنة المعابد التى تعلم وتعيد إنتاج اليقينيات وتحرسها من أى انتقادات أو شكوك حولها. من هنا تكوين المثقف ومقارباته وإنتاجه متغير ومتجدد، ومتحول، ويحمل تناقضاته، وتردده وقلقه الوجودى والكيانى، ومن ثمّ هو وجود معذب، أيا كانت درجة الاعتراف به وبمكانته وإنتاجه المعرفى أو الإبداعى. الوجود المعذب والمؤلم يبدو أحد شروط الحضور الإنسانى له فى الحياة الحديثة وما بعدها، وما بعد بعدها. من هنا يبدو أن عصر نهاية المثقف سيطول، وسينتهى عصر الناشط والداعية الأيديولوجى، مع تطورات السياسة والتقنية والحياة الرقمية فى مدارتها الأكثر تغيرا أو تحولا، وفضاءاتها الأكثر حرية ورحابة. إن استمرارية وظيفة الداعية الدينى واللاهوتى والمبشر رهينة قلق وجودى آخر مداره أسئلة الموت والعدم والوجود، ومدى قدرة المؤسسات والسلطات الدينية على مواكبة أسئلة عصورها المتغيرة. من هنا سيستمر دور الداعية والمبشر ورجال الدين فى ظل ديمومة تراجيديا الوجود الإنسانى فى الكون، واستمرارية البؤس والعوز، حتى فى ظل ظاهرة الاستنساخ الحيوانى والبشرى، وأيا كان النجاح الذى تحققه أو الفشل، إلا أن الأسئلة التى سيطرحها ستتماس مع الأسئلة المحورية للوجود والعدم -إذا شئنا استعارة التعبير السارترى زائع الصيت- ومن ثم سيستمر الدور مرتبطا بقدرة بعض رجال الدين الأذكياء من ذوى المعرفة والتكوين الفلسفى والاجتماعى الرفيع، على مقاربة الأسئلة الوجودية الجديدة والاستثنائية فى لحظة فارقة فى الإنسان المابعدى -ما بعد الحديث، ما بعد الثورة الرقمية، ما بعد الاستنساخ، ما بعد العولمة- فى ظل هذه المتغيرات والتحولات السريعة والمكثفة والعاصفة، وانعكاساتها على الوجود النفسى والاجتماعى، والدينى للإنسان المابعدى. سيحتاج رجل الدين -أيا كان- إلى أدوات معرفية ومقاربات جَّدُ مختلفة على نحو يسمح له بإنتاج معرفة دينية وتأويلات وتفسيرات تجديدية تسمح له بطرح أسئلة الإيمان والوجود والعدم وتحديات وهموم المراحل المابعدية فى الحضور الإنسانى فى الكون. إن الفجوة الراهنة بين أنماط الحياة المابعدية الفائقة التطور وأسئلتها ومشكلاتها وتحدياتها، تدفع بعض رجال الدين وهم قلة قليلة جدا -من أديان سماوية وغيرها- إلى السعى الحثيث والجرى السريع وراء أسئلة اللحظة المراوغة والسائلة، والبحث عن إجابات لها، من خلال تجديد الرؤى والتفسيرات، واستخدام ثورة اللغة وفيها وبها فى مختلف فروع المعرفة من الفلسفة إلى السياسة إلى القانون إلى علم الاجتماع... إلخ، وذلك بحثا عن إجابات لأسئلة الإنسان الإيمانية وغيرها. سيستمر رجل الدين ودوره ما استمر التجديد فى الأسئلة والأفكار ومنظومات التأويل والتفسير، ومدى قدرته على التكيف مع تطور الأبنية المعرفية ومتابعة واستيعاب البحوث والدراسات الاجتماعية واللغوية والفلسفية، والتطور فى مجال العلوم الطبيعية، فى جسارة وإقدام، وبلا وجل أو خوف. إن الوظائف الاجتماعية والدينية والسياسية تظهر وتتبلور أو تأفُل ما دام ظل هناك طلب اجتماعى وسياسى وإنسانى.. إلخ، عليها، وعندما لا تستطيع وظيفة ما، أو دور ما فى الحياة السياسية أو الاجتماعية... إلخ، أن تلبى هذا الطلب وتتطور وتواكب التغير فى مضمونه، وفى أسئلته، واحتياجاته، غالبا ما تدخل الوظيفة والدور فى أزمة، بل أزمات، ومعها القائم بهذه الوظيفة، وقد تدفع التطورات والأسئلة إلى تجاوز القائم بها. خذ على سبيل المثال وظيفة الفلاح الذى يعمل بيديه، أو العامل اليدوى فى إطار الثورة الصناعية الأولى، ثم التغير الكبير فى هذا الدور ونوعيته مع الثورة الصناعية الثانية والثالثة، وما بعدها، إلى عصر الثورة الرقمية. لا شك أن وظيفة رجل الدين والداعية والمبشر، وهى وظائف اجتماعية ودينية وضعية، ومن ثم تتطور مع التطور الإنسانى والسياسى والاجتماعى والتقنى... إلخ. من هنا يبدو مهما طرح أسئلة من قبيل ما معنى أن تكون رجل دين اليوم، وفى المستقبل؟ وما التكوين المطلوب لرجل الدين المستقبلى؟ وما العقل الدينى المطلوب لمواجهة أسئلة وتحديات عصرنا والعصور القادمة؟! ما التعليم الدينى ومناهجه المطلوب لحاضرنا ومستقبلنا؟ ما الأعطاب المؤسسية والمعرفية التى تؤثر سلبا على دور ووظيفة رجل الدين فى ظل العصر الرقمى وما بعده؟ هل العقل الناقل قادر على مواجهة الأسئلة والتطور الجديد فى ظل تحول الرقمية إلى نمط الحياة، وحيث يحمل الواقع الافتراضى والفضاء الرقمى تاريخ الأديان ونصوصها المقدسة، أو الوضعية، أو شروحها وتفسيراتها وتأويلاتها... إلخ. إن ظاهرة التحول الدينى، والنزوع نحو الأفكار الإلحادية، تشير إلى أن المتحولين لديهم من القلق الوجودى والأسئلة ما لا يجدون لها إجابات فى الخطابات الدينية والوعظية والإفتائية واللاهوتية والفقهية والكلامية السائدة فى السوق الدينية -وفق المصطلح السوسيولوجى- ومن ثمّ يولى بعضهم نفسه ونظرته شطر أديان أو مذاهب داخل هذا الدين أو ذاك. بعضهم الآخر لا يجد لدى الأديان السائدة السماوية أو الوضعية إجابات أو يقينا ما يؤدى إلى تماسك وتوازن بنياتهم النفسية، ومن ثم تبدأ رحلة الشك الدامية والمؤلمة. هذه الظاهرة لا تجد تفسيرا لها ولأسبابها، ومن ثم السعى لإجابات لها، ليست فى مصر فحسب وإنما فى المغرب والجزائر وتونس والسودان... إلخ.