حسام بدراوي يكتب: تمركزت أمامى فى دائرة صغيرة بالألوان.. الحمراء والخضراء على كتفيها.. وتتوسط محورها المحاط باللون البنى الفاتح، الفاتح للشهية، وكأنها تدعونى دعوة صريحة بلا خشية ولا خشاء.. التفت بعيدا عنها حتى لا تتلاقى عيناى بها، حاولت بكل الطرق احترامًا لنفسى أن لا أنظر إليها، وفتحت أحاديث جانبية حول التحكم فى الذات، كأن كلامى عن ذلك سيساعدنى ويقوينى أمام دعوتها الصامتة، المستمرة، الساكنة، وكأن كل ما أقول أو أفعل لا فائدة منه أمام إصرارها وجمالها، ورقة حاشيتها، وذوق تنسيقها لنفسها وجلال وضعها. التفت إلى السفير الفرنسى، الذى كنت مدعوا منه، وبدا مترددا فى أن يقول لى، لماذا أتجنبها بهذا الشكل؟ وأنا أقول لنفسى، هل يعتقد لأنه فرنسى، أن كل شىء مباح لى كما هو له ولعشيرته.. وتجنبت نظراته.. وابتسمت إلى نائبته الجالسة بجوارى وسألتها: كيف اندمجت الثقافة الفرنسية بوجدان الشعب الفرنسى، فتصبح الشياكة والأناقة فى الملبس، والذوق والرقة فى الجلوس، والقيام والحركة، مع طريقة تناول الطعام والجلوس على المائدة جزءًا من هذه الثقافة التى حررت العالم فى واحدة من أكثر ثورات التاريخ تأثيرًا فى حركة الأمم والبشر؟ هل كان المطبخ الفرنسى مثلًا جزءا من ثقافة الملوك والقصور، أم كان إنتاجا توافقيا من الشعب والأمراء فى اندماج مدهش لطريقة الحياة؟ كيف تكون ثورة الشعب من الفقراء، وكل فلاسفتها الذين أسسوا لمبادئ الحرية، وحق الفرد أمام سلطة الأمراء فى القصور والملوك على عروشها استطاعوا فى حرفية فرنسية مدهشة أن تدمج تاريخ هؤلاء الملوك دمجا فى ثقافة شعبها فى مزيج عجيب نتج عنه هذا الوله بالثقافة والعلم، وهذا الجمال والرشاقة فى الملابس والحركة، وهذا الشكل والمضمون الجاذب المميز للمطبخ الفرنسى.. حتى أصبح نتاج ذلك كله مرسوما أمامى.. وأنا أنظر إليها.. أتمعن فيها.. كل جزء منها يعبر عن هذا التاريخ، وتلك الثقافة وهذا التميز. فما بالى أتردد.. هى تريدنى، وأنا شغوف بها.. هى تنادينى، وأنا أستطيع ببساطة أن أمد يدى إليها.. وأغمضت عينى.. وسرحت أفكارى للحظات فى إرادتى التى لا تتوافق فى هذه اللحظة مع رغبتى.. وقلت لنفسى: ليس بعد كل هذا الجهد والمعاناة أنهار ببساطة أمام دعوة بسيطة مثل هذه الدعوة.. إنها ستختفى بعد لحظات، ولا يبقى لى غير المعاناة والألم. غريب هذا الإنسان.. لحظة متعة، وثوان من الشغف تتعاظم لتملأ الكيان، وكأن كل مبرر للجهد والعرق والحرمان فى الأسابيع الأخيرة التى أخذت مع نفسى عهدا بها قد ضاع أمام قوة وتاريخ وعظمة الشعب الفرنسى، ممثلا فيها.. وهى تذوب أمامى بهذا الشكل وهذا الجمال.. مددت يدى إليها، وبتردد سمحت لها بالاقتراب من فمى.. نعم.. شفتاى ارتعشت، وذابت هى فيهما وحولهما، لتملأ نفسى برضا، وارتعاشة العاشق الولهان، واختفت من ذاكرتى كل ادعاءات القوة والإرادة، وأقنعت نفسى فى لحظة بأنه حقى.. هى تريدنى وأنا أريدها.. هى تنادينى وأنا أناديها.. ذوبانها لحظة التقاء شفتىّ بها لا مثيل له.. وامتدت لتصل إلى لسانى وتلتف حوله وتنساب فى خلايا إحساسه. يا ربى.. ما هذه المتعة، لحظة اختلاط مذاقها، بالفراولة والكانتالوب على سطحها والشيكولاتة تذوب بينهما، على قاعدة البسكويت الفرنسى اللذيذ.. المذيب السائح على نائح يذوق. اللعنة على الريجيم وفقدان الوزن أمام هذه القطعة من الجاتوه الفرنسى أمامى فى طبق هو خليط من الذوق والأناقة والطعم واللذة.. أخذت القطعة فى فمى، وابتسمت بسعادة.. إنه بشكل أو بآخر لقاء بين الشعوب، واندماج بين الثقافات.. أنا المصرى الصميم، فى منزل السفير الفرنسى فى القاهرة، وقطعة الجاتوه من المطبخ الفرنسى الشهير فى فمى.