نظرة خاطفة إلي ساعتها , أدركت ماري أن الموعد قد أقترب كثيرا , لم يعد يفصلها عنه في الواقع سوي ساعة واحدة , كان الموعد في جروبي بشارع عدلي , لا بأس إذن من الانتظار بالمحل الحبيب , كما أنه لا يوجد طريقة لكسر كل هذا التوتر والقلق الذي يعصف بنفسها أفضل من فنجان شاي وربما قطعة من ( البيتيفور بالشوكولاتة ) , بضع لحظات من الصفاء العقلي والنفسي تحتاجها قبل الموعد الهام , وجلسة في مكانها المفضل الذي لم تتخلي عنه طوال أربعين عاما إلا مضطرة ستعمل بنفسها المضطربة عمل السحر , جلست ماري بجوار النافذة التي تطل علي الشارع , وأخذت ترمق المارة بنصف عين وقلبها وعقلها منشغلين بشيء أخر , كانت تستبق الساعة التي تفصلها عن موعدها وتحاول التنبؤ بما قد يحدث , وشعرت ببرودة قارصة بقدميها وأناملها كعادتها عندما تتوتر . فتحت ماري حقيبتها (الفيرنيه) السوداء وأخرجت علبة سجائرها المذهبة التي لا تفارقها أبدا , أشعلت سيجارة وأخذت تنفث الدخان في بطء , حانت منها التفاته إلي شاب وسيم يبدو في العشرينات من العمر يجالس فتاة شابة ضئيلة الحجم , ابتسمت له ماري في ود فرمقها بشيء من العداء ثم أشاح وجهه متجاهلا إياها تماما , لم تندهش ماري من رد فعله فقد تعودت علي تلك التصرفات العدائية الغير مبررة التي طرأت علي المجتمع الذي بات رافضا للكثير من الأشياء ومنها تدخين المرأة في الأماكن العامة علي الرغم من انتشار الشيشة بين الفتيات في المقاهي , ولكن يبدو أن تلك الفتيات لا تجدن من يضايقهن لأنهن كفيلات بصد من تسول له نفسه بالاعتراض ولو حتي السلبي , أما هي , فقد كانت تبدو هشه ودودة وغير ضارة بسني عمرها السبعين وملامحها الأرستقراطية الأصيلة , فكانت صيدا سهلا لأصحاب المبادئ الصارمة والمثل القويمة الذين يفرضون علي الأخرين الشكل الأمثل للحياة كما يجب أن يكون , ويحتقرون كل من يشذ عن حظيرتهم الأخلاقية النموذجية , ويبدو أن هذا الأخ كان من هذة الفئة التي صارت تألفها وتعرفها تمام المعرفة , فلم تعره اهتماما وأشاحت بوجهها بعيدا , محاولة الإنشغال بأي عابر حولها يلهيها ويهون عليها هذة اللحظات الصعبة . ومر الوقت وجاءت الساعة المرتقبة ومرت بعدها نصف ساعة أخري وعيناها لا تفارقان باب المحل ولا تكفان عن فحص كل إمرأة تدخل او تخرج من المكان , حتي لمحت إمرأة شقراء في منتصف العمر تدخل المكان وتسلط عينيها الزرقاوين الصارمتين علي كل الموائد محاولة العثور علي شخص ما , أحست ماري أنها هي فلوحت بيديها محاولة لفت إنتباهها راسمة تعبير عام يوحي بالمرح لتقهر به توترها , فرمقتها المرأة الشقراء بشيء من الاحتقار وتوجهت إليها وجلست أمامها عاقدة يديها علي صدرها ونظرة خاوية ترتسم علي وجهها , كسرت نظرات المرأة وبرودها الشديد قلب ماري , ولكنها ابتلعت مرارتها وابتسمت في خفوت وقالت : "أريدك أن تجربي الجاتوه بالشوكولاته هنا , ثقي أنك لن تجدي له مثيلا حتي في أمريكا , لقد كانت بنات الملك شارل ملك انجلترا يطلبن شوكولاتة جروبي بالإسم , ما رأيك يا صوفي؟ " قالت صوفي في ملل : " أنا لا آكل الشوكولاتة , ربما بعض الماء من فضلك " استدعت ماري النادل العجوز (عم بشارة) الذي دامت معرفتها به لأكثر من ثلاثين عاما فحياها بحرارة وطلبت منه جاتوه بالشوكولاته وشاي , ثم التفتت إلي صوفي التي كانت ترمق الشارع في شرود وقالت : " ما رأيك في مصر ؟ لقد تغيرت كثيرا , انتظري حتي ترين المدن الجديدة والمولات التجارية والهايبرز , لقد أصبحت القاهرة مدينة كبيرة جدا حتي أنني أخاف في بعض الأحيان أن أخرج من منطقتي في وسط البلد , أحيانا أشعر أنني قد علقت بالماضي وصار عسيرا علي أن أتقبل كل هذة المتغيرات , فقد سقطت سهوا من ألة الزمن , وسمعت أن الحال في أمريكا قد تغير أيضا , علي أي الأحوال أنا لم أحب أمريكا يوما , فقد أسرتني القاهرة منذ زمن بعيد , وأعتقد أنها ستروقك كثيرا يا صوف " " أولا اسمي صوفي , ولا يناديني أحد بصوف سوي المقربين , ثانيا أنا لم آت لأستقر هنا في هذة البلد المتخلفة الحارة , فكما قرأتي في خطابي أنا هنا في عمل خاطف بالمعونة الأمريكية , وغدا سأعود إلي واشنطون مرة أخري , وقد جئت بناء علي طلبك ولن أنكر أن إلحاح والدي الشديد كان السبب الوحيد في مجيئي اليوم " امتقع وجه ماري وقالت في حزن عميق: " صدقيني يا صوفي أنا لم أطلب رؤيتك كي أعيد بناء علاقتنا مرة أخري , فأنا أعلم أن هذة القضية خاسرة , وأعلم أن إحساسك بي كأم لن يكون أبدا , علي الرغم من أنني لم أفقد إحساسي بك طوال الوقت , وصدقيني أنا لم أطلب لقائك كي أدافع عن نفسي , فلم يعد هذا مجديا الآن , لقد رغبت في رؤيتك لأنني لم أتصور أن أفارق هذة الحياة دون أن أراك , وأعلم أن موروث الكراهية التي زرعها والدك بنفسك طوال كل هذة الأعوام لن تمكنني من إختراق جبل الجليد الذي تكون بيننا , ولكن يمكننا فقط أن نلقي نظرة من خلفه من آن لأخر , أتستكثرين ذلك الأمر علي ؟ علي أي الأحوال أنت مدينة لي بساعات الولادة الطويلة التي كدت أقضي نحبي بسببها , ومدينة لي كذلك بعشر سنوات من عمرك قضيتها معي رعيتك فيها بمنتهي الحب " ردت صوفي بحدة : " أي دين هذا الذي تتحدثين عنه ؟ لقد تخليتي عني بإرادتك , تركتينا نرحل وحدنا انا ووالدي ولم تفكري طوال خمسة وثلاثين عام في التراجع , بقيتي في قاهرتك الرائعة علي الرغم من أنك لست مصرية , وفضلتي البقاء فيها بعيدا عن ابنتك , وبعد كل هذة السنوات تطالبينني بسداد الدين ؟ عفوا يا سيدتي , لا يوجد لكي أي رصيد عندي " قالت ماري في حزن : " أنت لا تفهمين الأمر يا صوفي , لقد تركت اليونان وأنا في الخامسة , وتشكل وعيي وذاكرتي هنا , عشت هنا سني الطفولة وسني المراهقة والشباب ,فقد أرتني مصر وجها فاتنا لم يراه منها حتي أبنائها , هنا في القاهرة في وسط البلد كان عملي وحياتي وسعادتي وأيامي الجميلة , وهنا كان وزواجي الأول وزواجي الثاني بوالدك , لقد تزوجت في المرة الأولي بقريب لي كان يعيش هنا وعندما فكر في العودة إلي اليونان تركته , وأخترت والدك الذي كان يعمل عندي في محل التحف الخاص بي وتزوجته لأنه مصري , وتزوجته وهو يعلم تماما سبب طلاقي من زوجي الأول , ومع ذلك فاتحني في مسألة الهجرة حين كان عمرك تسعة سنوات , ورضخت للأمر حرصا عليك وسافرت معه وتركت بيتي وعملي وكياني هنا , فقط ليريني وجها أخر له كان مخفيا وراء مصالحه في مصر , لم أتحمل معاملته السيئة فأخذتك وعدت بك إلي مصر ولكنه أبي أن يتركني لأنعم بك فإختطفك وعاد بك إلي أمريكا وغير اسمه وعنوانه , لقد عشت أياما سوداء ولازمني مرض الإكتئاب إلي الآن , حتي عاد وظهر العام الماضي وبعث لي بأخبارك وصورك ومنذ ذلك الحين وانا ألح عليه كي أراكي ولو مرة واحدة " صاحت صوفي في عصبية : " أعتقد أن الرجل الذي رباني وأحبني ورعاني حتي كبرت وأصبحت إمرأة ناضجة يستحق أن نذكره بالخير هنا , وعموما فقد حكي لي عن تلك القصة الملفقة التي رويتها , ولكنه هو من أصر علي أن أراكي لأنه يعتقد أنه ينبغي علي أن أزورك , وعلي الرغم من اختلافي معه في الرأي إلا أنني أتيت إكراما له , وها هو رد الجميل , تحاولين تشويه صورته في عيني " قالت ماري في غيظ : " أوه , ألم تفكري في السبب الذي دفعه ليكشف عن نفسه الأن ؟ لقد علمت من رسائله أن أحواله المادية متدهورة , لهذا السبب فقط عاد كي يبحث عن طليقته الثرية , وعلي أي الأحوال أنا لا أهتم بالنقود , فأنا لم أنجب سواك , ولم أفلح في زواج بعد والدك , ولا يوجد لي وريث سواك , وكنت أخشي أن ينقضي العمر وتضيع الأموال دون أن أجدك " " لا يا ماري هانم , أنا ووالدي لا نريد شيئا من أموالك , عموما سأنصرف الأن فقد تحدثنا كثيرا بالفعل " وقامت صوفي وهمت بالانصراف فأمسكت ماري بيد ابنتها بحزم قائلة في شدة : " لن تنصرفي دون أن تشربي الشاي معي " أفلتت صوفي يدها من يد ماري ونظرت لها مليا وجلست في استسلام اندهشت له في نفسها , فجاء (عم بشارة) بالجاتوه والشاي فربتت ماري علي يده شاكره فالتفت إليها الرجل الطيب قائلا : "منورة يا ست ماري , والله انتي الحاجة الحلوة اللي باقية من ريحة زمان , ربنا يخليلك الهانم بنتك شبهك تمام" ابتسمت ماري قائلة في فخر: "طبعا يا بشارة كل الناس بتقول كده من يوم ما اتولدت " ونظرت ماري إلي ابنتها التي ترمقها في ريبة وقالت : " هيا يا صوفي , تذوقي جاتوه جروبي , هيا , إنها قطعة جاتوه ليس إلا , ولن يترتب عليها شيء , متعي نفسك ولا تفكري في شيء , هيا , تذوقي يا صوفي " تذوقت صوفي قطعة من الجاتوه وشعرت فعلا في نفسها أنها تتذوق أنعم وأشهي شوكولاته في الوجود , أذاب طعم الشوكولاته شيئا من جمودها فنظرت إلي الشارع وسألت والدتها : " أمازلتي تسكنين بعمارة الإيموبيليا؟ " " نعم ومازال البيت كما هو , قمت فقط ببعض التجديدات ولكنه يحمل ذات اللمسات وذات التحف والأثاث " " أمازال كازينو قصر النيل قائما أم أزالوه ؟ " " أوه يا صغيرتي , لقد كنت أتناول غدائي فيه بالأمس , حري بك أن تزوريه فقد كان فسحتك المفضلة فيما مضي . " ابتسمت صوفي للمرة الأولي وقالت لأمها : " أمازلتي تتذكرين ؟ " ابتسمت ماري في حنان قائلة " طبعا يا صغيرتي والدتك لا تنسي شيئا , كما أنني لم أنسي أنك كنت تحبين الشوكولاته كثيرا ولم أنسي كيف كنت تطلبينها مني دائما وانت صغيرة " صحكت صوفي قائلة : " نعم ظللت آكل شوكولاته حتي زاد وزني وأصبحت بدينة وصرت مثارا لسخرية الجميع في المدرسة , أعتقد أنني كنت أزن وقتها أكثر مما أزن الآن " ضحكت ماري بدورها قائلة : " يااه , ألهذا السبب أقلعتي عن أكل الشوكولاته ؟ حسنا يوم واحد لن يفسد رشاقتك " قالت صوفي وقد استعادت لهجتها المتحفظة : " حسنا فلأنتهي سريعا من هذة القطعة , ففترة الإستراحة علي وشك الإنتهاء " أخذت ماري تتأمل ابنتها وهي تأكل , وتملأ عينيها منها , من يدري ؟ ربما تكون تلك هي فرصتها الأخيرة , تشاغلت ماري عن هذا الخاطر المزعج بالإنهماك في اكل قطعة الجاتوه , انتهت صوفي من الأكل وهمت بدفع الحساب فأمسكت ماري يدها للمرة الثانية بحزم وقالت : " لعلك نسيت أنني أكبر سنا , وأن الأصول تحتم أن أدفع أنا الحساب " أعادت صوفي نقودها قائلة : " حسنا , كما تشائين , أشكرك علي كل حال , ولن أنكر أن الجاتوه كان لذيذا " قالت ماري بابتسامة واثقة : " أعرف أنه لذيذ يا صوفي , ولعله هو ما أبقاني في مصر , وعلي كل حال لا تتسرعي في الحكم علي الجاتوه قبل أن تتذوقيه , الله وحده يعلم كم من فرصة جيدة تضع من أيدينا لأننا نرفضها قبل أن نجربها " رمقتها صوفي بنظرة طويلة متفحصة ثم توجهت إلي باب المحل لتنصرف , فحانت منها نظرة إلي الأرضية الجميلة المزينة برسوم الفسيفساء تحت قدميها ومكتوبا عليها عبارة (قفير النحل) , لم تفهم صوفي معناها وكادت تنصرف ولكن فضولها غلبها فعادت لماري لتسألها عن معني الكلمة , فوجدت وجهها مغرقا بالدموع وتحاول عبثا البحث عن منديل بحقيبتها , لدهشتها الشديدة اعتصر قلبها عندما رأت أمها علي هذا النحو فالتقطت منديلا من حقيبتها وجلست بجوارها هذة المرة , وربتت علي كتفها وأخذت تجفف وجهها العجوز المنهك وهي تقول : " لقد قرأت عبارة علي أرضية باب المحل وعدت لأسألك عن معناها " قالت ماري من وسط دموعها : " أي عبارة تلك ؟ أه قفير النحل ؟ إنها لغة عربية فصحي وتعني خلية النحل كناية عن الحركة الدائبة بالمكان " ضحكت صوفي وقالت : " ياللقدر أنا مصرية وأسألك أنت اليونانية عن معني كلمة عربية " لم ترد ماري وابتسمت وبدا أنها فقدت القدرة علي السيطرة علي دموعها تماما , فاستطردت صوفي قائلة : " لقد كذبت عليك بشأن موعد عودتي لأمريكا , فطائرتي موعدها الأسبوع القادم , أتمانعين لو أقمت معك هذا الأسبوع ؟ " أجهشت ماري بالبكاء واحتضنت صوفي وقلبها يخفق سعادة , لم تصدق أذنيها ولم تصدق أن ينتهي لقائهما علي هذا النحو , لم تصدق أن يهديها القدر هدية العمر في أخره هكذا , ولم تصدق أنه قدر لها أن تنعم برفقة ابنتها التي فقدتها منذ سنوات كثيرة وجاهدت وثابرت علي مدي عام كامل لتراها لبعض الوقت , لقد دخلت المحل وجل ما تطمح به أن تري ابنتها لساعة واحدة , ولكنها خرجت وقد ظفرت بأسبوع كامل معها , أيوجد في هذة الدنيا مخلوق اسعد منها ؟ "حسنا لنحتفل يا صوفي بهذة المناسبة " " ناديني بصوف يا ماري فقط صوف , وإذا أردتي إحتفالا فدستة جاتوه بالشوكولاته قبل أن نغادرستفي بالغرض " تمت