يبدو أخطر ما فى الخطابات السياسية السائدة حول العملية الثورية الاحتجاجية فى 25 يناير 2011 يتمثل فى هيمنة التقييمات السياسية المعيارية التى تدور حول أحكام القيمة المفرطة بين حدَّى الإيجابية والسلبية، والتى تختلف حسب المصالح السياسية والاجتماعية وراء النظرة إلى الحدث الثورى دونما تحليل يتسم بالحد الأدنى من الموضوعية فى المقاربة. من هنا يرى صناع الحدث ومحركوه -من الأجيال الشابة وغالب رموز المشاركين من جيلى الستينيات والسبعينيات- إننا إزاء ثورة انطلاقًا من أنها استطاعت أن تجبر الرئيس الأسبق حسنى مبارك على الرحيل من السلطة وتقديمه ونجليه وبعض حاشيته السلطوية ورؤساء وزراء ووزراء ووزير الداخلية وبعض قادة القطاعات الأمنية الأساسية، ووزير الإعلام القوى صفوت الشريف، إلى المحاكمة. ويساند بعضهم هذه الوجهة من النظر بالقول إن هذا الحدث الثورى استطاع أن يكسر حواجز الخوف لدى «الشعب المصرى»، ومن ثم مات الخوف بتعبير بعضهم فى التركيبة النفسية للمصريين. ويعطف بعضهم الآخر على ذلك بأن الحدث الكبير، لا ينبغى أن يقاس ويُقيم على نمط الثورات الكلاسيكية الكبرى فى التاريخ الإنسانى من مثيل كروميل فى بريطانيا، والثورات الفرنسية، والروسية، والإيرانية. أنها أمر مغاير وربما أقرب إلى الثورات الملونة -كما سبق أن أطلقناه عليها- أو المخملية فى أوروبا الشرقية. إنها ثورة على نمط جديد أقرب إلى بعض سمات ثورة الاتصالات والمعلومات والوسائط المتعددة، أى الثورة الرقمية التى لعبت دورًا مهمًّا فى التمهيد للحدث الثورى فى الحشد والتعبئة والتعبير عن الأفكار المقموعة فى الواقع الفعلى من خلال المجال العام الرقمى أو الافتراضى. من هنا هى ثورة ذات سمات خاصة تغاير الثورات الكلاسيكية التاريخية. لا شك أن هذا الرأى الغالب يعكس تقييمًا رغائبيًّا أقرب إلى الأمنيات منه إلى الواقع الموضوعى للحدث الثورى وأطرافه وتفاعلاته ومساراته، ونتائجه السياسية التى انطوت على فتح المجال لوصول أطراف سياسية أكثر تنظيمًا وشعبوية دينية من نمط خاص -الإخوان المسلمين والسلفيين وآخرين- وذلك بالتوافق -أو التواطؤ- فى نظر بعضهم مع المجلس العسكرى الأول الذى تحرك لتسلم السلطة فى أعقاب رحيل حسنى مبارك عن الحكم. مَن وصلوا إلى السلطة من الإسلاميين السياسيين لم يكونوا جزءًا أصيلاً وعضويًّا من تمهيدات، وحركة القوى الشابة من أبناء الطبقة الوسطى، فى الأعداد والمبادرة بالتحرك يوم 25 يناير 2011 وما بعد، وكان موقفهم الأول هو رفض هذه العملية الثورية بل وانتقادها، ثم مشاركتهم جزئيًّا فى بعض وقائعها الحركية، والمشاركة الانتقائية فى التظاهر، وفق مسار التفاوض بينهم وبين السلطة الانتقالية فى المرحلة الأولى، حتى استطاعوا فرض تصورهم لخارطة الطريق الأولى التى أوصلتهم إلى السلطة. إن نظرة على الفترة ما بين 11 فبراير 2011 حتى 30 يونيو 2013 تشير إلى غياب رأسمال من الخبرات بالدولة وثقافتها وتاريخها وآليات عملها، بل وثقافة البيروقراطية المصرية، على نحو أدى إلى فشل الإخوان، ومعهم فى ذات الوقت الطلائع الشابة التى ظهرت فى أثناء العملية الثورية التى غامت لديها الرؤية، واضطربت النظرة وتفككت وانقسمت فى أثناء إدارة التفاوض السياسى مع السلطة الانتقالية. أحد الأعطاب الكبرى تمثّل فى اللغة السياسية وغلبة الفكر الرغائبى ولغة المجاز السياسى المفرط فى وصف الحدث الثورى، وهو ما شكل أحد الأعطاب التى أصابت التفكير والرؤى المضطربة التى سادت لدى بعض قادة الائتلافات الثورية الحقيقية التى خرجت من قلب العملية الثورية لا بعدها من بعض أتباع السلطة. لماذا اللغة المجازية المفرطة شكلت أحد المخاطر فى فهم الحدث وكيفية تقييمه وإدارته؟ إن اللغة هى التفكير ذاته، وليست محض أداة تعبير على ما يشاع خطأ فى الفكر الشائع مصريًّا وعربيًّا، والاستثناءات محدودة. ترتيبًا على ذلك فإن الأوصاف السياسية المجازية المفرطة هى تعبير عن خلل فى مقاربة الأحداث والوقائع السياسية التى تنتج وتتحرك فى الواقع الموضوعى. من هنا كان المجاز الثورى يبدو مفارقًا ومن ثم شكل مظلة تفكير سياسى يتسم بالمبالغات التى شكلت حجابا نفسيا وذهنيا مفارقا. إن إطلاق وصف «ثورة» على 25 يناير 2011، ثم 30 يونيو 2013 يبدو بعيدا عن كلا الحدثين، على الرغم من أن الوصف «ثورى» للانتفاضة الأولى وعملياتها هو أقرب إلى الدقة والموضوعية فى المقاربة. إن جزءًا من الانقسامات بين السلطة الحاكمة والشباب يعود إلى الصراع على الحدث المؤسس للشرعية، هل هى 25 يناير أم 30 يونيو؟ إذا كنا إزاء انتفاضة ثورية فالحدث الرئيسى والمركزى هو العملية الثورية فى 25 يناير بلا نزاع. من هنا تشكل الانتفاضة فى ما يبدو عقدة سياسية لعديد ممن شاركوا فى أحداث 30 يونيو 2013 وما بعدها، وذلك لأن بعض هؤلاء يتناسون أن عديدًا من الطلائع الشابة ومعهم الأجيال السابقة عليهم من المثقفين والحركيين من رموز 25 يناير 2011 شاركوا بقوة فى رفض سياسة جماعة الإخوان والقوى السلفية والسلطة الانتقالية وشاركوا بفاعلية فى 30 يونيو 2013. بعض هؤلاء الجاحدين لدور الطلائع الشابة فى 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، هم مؤيدو وداعمو النظام التسلطى الفاسد طيلة أكثر من ثلاثين عامًا مضت. بعض أسباب الإخفاق تعود إلى بعض من المزايدات السياسية حول أهداف انتفاضة 25 يناير 2011 الثورية على نحو شكل مفارقة للواقع الموضوعى وتوازناته، والدولة «القومية» المركزية، وعمق الثقافة السياسية التسلطية فى الشرائح الجيلية من كبار السن، وداخل قطاعات اجتماعية واسعة، ومن ثم إمكانية استخدام الخوف من غياب الأمن، وسطوة عصب البلطجة، والجانحين من الخارجين على القانون على حياة وممتلكات الطبقة الوسطى، والأخطر انتشار سوق السلاح داخليًّا، وإقليميًّا من عديد من المناطق الحدودية المضطربة فى ما بعد. توظيف الخوف على نطاق واسع سواء من السلطة الانتقالية، أو من الإخوان والسلفيين على نمط الحياة الذى ألفه المصريون، والطبقة الوسطى فى المدن، هو أحد محركات استعادة الدولة وأجهزتها وقادتها لزمام الأمور، لا سيما بعد تواطؤات وتوافقات الإخوان والسلفيين مع السلطة فى المرحلة الانتقالية الأولى والثانية. من هنا أدارت بعض الشرائح العليا والوسطى من الطبقة الوسطى فى المدن ظهورها للانتفاضة الثورية ولطلائعها الشابة، لا سيما فى ظل بروز توجهات وإشارات سلبية إزاء الأجيال الأكبر سنًّا فى النخبة السياسية وأجهزة الدولة وسلطاتها، والخصومة التى ظهرت مع الجماعة القضائية، والأجهزة الأمنية على نحو أدى إلى نتائج تبدو سلبية إزاء التظاهر السلمى والقانون المنظم له، بما ينطوى عليه من تغليظ للعقاب ووقوع عدد من النشطاء الشباب تحت طائلته. إن فهم أسباب تراجع الانتفاضة الثورية لا يعنى أنها لم تحقق أهدافًا مهمة منها كسر حواجز الخوف لدى بعض القطاعات الاجتماعية، إلا أن ذلك مهدد بتراجعه إلى الوراء، لعودة بعض الفكر التسلطى والقمعى لدى بعضهم فى أجهزة الدولة، على نحو يؤدى إلى تعميق الفجوة الجيلية بين مَن هم فى السلطة وبين الأجيال الشابة وطلائعها الثورية، وهو ما يحتاج إلى حوار عميق وجاد. من ناحية أخرى ضرورة الإفراج عن سجناء التظاهر السلمى، لا سيما الفتيات، ومراجعة هذا القانون مجددًا، حتى لا يكون قيدًا على إحدى الحريات العامة، ولتحسين صورة السلطة على الصعيد الكونى، والأهم بداية لحوار جاد وموضوعى مع الأجيال الشابة الجديدة وطلائعها فى طريقنا نحو المستقبل.