يبدو أن أسئلة إخفاق الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011 فى تحقيق أهدافها السياسية من الأهمية بمكان، لأن الأسئلة الحقيقية وبعيدا عن الشعارات وأحكام القيمة والمجازات السياسية هى التى يمكنها أن تقود إلى تقديم فهم موضوعى لما حدث فى المراحل الانتقالية، ومن ثمّ تساعد على تطوير الوعى الاجتماعى والسياسى بما حدث، والأهم أنها تفتح الأبواب أمام تراكم الخبرات وتطويرها لدى الأجيال الجديدة الشابة، التى أصيبت بالإحباط حينا، واليأس فى أحيان أخرى على نحو يُرهص بإمكانية انتفاضات أخرى قد تؤدى إلى انهيارات جديدة، وأشكال من الفوضى غير المألوفة، فى ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متكالبة وخطرة. إن فهم ما حدث من قِبل نخبة المرحلة الانتقالية الثالثة قد يؤدى إلى تطوير رؤاها وأفكارها وسياساتها، ويساعدها على تجسير الفجوات بينها وبين الأجيال الجديدة. إن نخبة الحكم الراهنة تحتاج إلى هامش من التفكير والخيال السياسى والوعى المرهف حتى تستطيع الخروج من خدر الوعى الزائف بأنها أمسكت بمقاليد السلطة والأمور فى الدولة وسلطاتها وأجهزتها، على نحو يجعلها تعيد إنتاج أخطاء النظام التسلطى طيلة أكثر من أربعين عاما مضت منذ وصول السادات إلى السلطة حتى اللحظة الراهنة. إن حالة الإخفاق تدور حول سؤال مركزى هو: لماذا انكسرت الانتفاضة؟ ولماذا تحول شباب العملية الثورية وطلائعها من مركز المشهد السياسى إلى هوامشه؟ يبدو لى وأرجو أن لا أكون مخطئا، وبعيدا عن نظرية المؤامرة وحروب الجيل الثالث وأساطيرها المسيطرة على تفكير بعض قادة النظام وأجهزة الدولة العتيقة والإعلاميين، الذين يميلون إلى التفكير التآمرى لأنه سهل، ولا يحتاج إلى الجهد العقلى الضارى المطلوب سعيا وراء معرفة الأسباب والأطراف والدوافع والسياقات، وهى أمور تتطلّب يقظة سياسية حادة وعملا متواصلا، بحثا عن المعلومات ما ظهر منها -وهو فى الغالب كثير وضخم- وما بطن وهو قليل فى ظل ثورة المعلومات والاتصالات، والوسائط المتعددة. من هنا يميل بعضهم من كبار موظفى البيروقراطية الأمنية والاستخباراتية إلى الشك الدائم فى النشطاء والحركيين والمنظمات غير الحكومية، وفى مجتمعات المثقفين وفى المقاهى والمشارب... إلخ. هذا الدور جزء من وظائف الدولة -أيا كانت طبيعتها شمولية أو تسلطية، أو ديمقراطية أو دينية- يتعيّن على أجهزتها الأمنية والاستخباراتية أن تنهض بأعبائه ومهامه، لكن فى إطار احترام قواعد دولة القانون ومعاييره الموضوعية والإجرائية، دونما تجاوز، وإذا انحرفت عن السراط القانونى المستقيم تخضع للمساءلة فى الدول الديمقراطية الدستورية الحديثة والمعاصرة. إن الشك فى مَن وراء التظاهرات أو الأنشطة السياسية أو الأهلية أو الثقافية يبدو أحد مواريث الدولة التسلطية المصرية، وغيرها من النظم الشمولية، ومن ثمّ يمارس فى بعض الأحيان دون ضوابط دولة القانون، ومن هنا تتوالد الانتهاكات للحقوق والحريات العامة والفردية، والميل إلى منع الأنشطة وقمعها، وهو ما يؤدى إلى التأثير على هيبة الدولة وصورتها فى المجتمع الكونى. الميل إلى الإحالة الذهنية للفكر التآمرى وراء الأحداث والظواهر السياسية، أو الاجتماعية غير المألوفة، هو تعبير عن غلبة التفكير النمطى، والقوالب سابقة التجهيز التى قد تصلح فى بعض الأحيان، لكنها لا تصلح فى أحيان أخرى. إن خطاب المؤامرة يرمى إلى إثارة المخاطر والمخاوف الجماعية، ومن ثمّ إشاعة الخوف والرعب لدى قطاعات اجتماعية واسعة على نحو يسمح بالسيطرة ويدعم التحكم والتسلط، ومن ثمّ تعبئة الحشد الجماهيرى إزاء بعض الأشخاص، أو المنظمات السياسية، أو الجماعات الثقافية، أو بعض المنظمات الأهلية الدفاعية، أو بعض الجماعات الاحتجاجية التى ظهرت فى أعقاب حركة كفاية و«6 أبريل» و«كلنا خالد سعيد»، ثم التحالفات الثورية فى سياق 25 يناير 2011. الأخطر هو الانفجار المريب لما سمّى بظاهرة الائتلافات الثورية لاحتواء وضرب الطلائع القيادية الشابة التى ظهرت فى إطار العملية الثورية. لا يبدو أن بعض أجهزة الدولة أسهمت فى دعم هذا الانفجار الائتلافى الوهمى والكاذب، للتغطية على القيادات الفعلية التى ظهرت فى ميدان التحرير، وسياسة الميادين أو سياسة الشارع. إن بعضا من العمليات التى أسهمت فيها جهات خارجية تم كشفها، ومنها تحطيم السجون، وإخراج مَن هم على ذمة قضايا، أو تحت طائلة الحبس الاحتياطى، من قبل «حماس» و«حزب الله»، ومن ثمّ يمكن تصنيفها «نسبيا» فى دائرة المؤامرة، أما اعتبار أن بعض المجموعات الأخرى متآمرة فهو أمر يتسم بالغرابة، لا سيما أن معارضتهم كانت علنية لنظام مبارك ولتجاوزات بعض الأجهزة فى إطاره، لا شك أيضا أن الاضطراب الأمنى والعنف الذى مارسته جماعات خارجة على القانون، وبعض السلفيين والإخوان والانقسامات الحادة بين هؤلاء، وبين الطلائع الجيلية الشابة من أبناء الطبقة الوسطى المدينية، ومعهم الأحزاب السياسية الهشة الأخرى، وبعض الشخصيات العامة المدنية، أدى إلى فتح الأبواب أمام تداخلات دولية وإقليمية واسعة النطاق، رمت إلى تحديد مسارات العملية الثورية لخدمة مصالح هذه الأطراف من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول المجموعة الأوروبية، لا سيما بريطانيا وفرنسا، وفى الإقليم قطر وتركيا وإيران... إلخ. من هنا نستطيع القول إن جزءا من الفكر التآمرى الذى يرتكز على ثقافة المؤامرة حاضر فى التركيبة المصرية، ومن ثمّ تم استنفاره لتفسير ما حدث. استمرارية هذا الفكر بالغة الخطورة فى إطار أجهزة الدولة والنخبة السياسية الحاكمة بعد رحيل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين عن سدة السلطة -البرلمان والرئاسة- لأن ذلك يحجب العيون والأذهان السلطوية عن الأسباب التى أدت إلى الانتفاضة الثورية من الزواج الكاثوليكى بين الفساد والاستبداد، ومن الشيخوخة السياسية للدولة، والنخبة والنظام، ومن تدهور مستويات أدائهم، والأخطر تآكل بعض مكونات الدولة، والجمود المؤسسى، والتجريف المنظم للكفاءات والمواهب والكوادر الشابة أو المعارضة، وهو ما أدى إلى تمدد الإخوان والسلفيين فى قطاعات اجتماعية واسعة طيلة أكثر من أربعين عاما مضت. أحد أهم أسباب تآكل الانتفاضة الثورية يعود إلى غلبة العفوية والفكر اللحظى الذى يعتمد على ردود الأفعال على مواقف وأفعال السلطة الانتقالية أو جماعة الإخوان والسلفيين، ومن ثم غامت الرؤية الواضحة لكيفية التعامل مع المرحلة الانتقالية فى أعقاب إزاحة الرئيس الأسبق عن سدة السلطة. من ناحية أخرى، بروز بعض من النزعة الاستعراضية، لبعض من قيادات الائتلافات الثورية، لا سيما فى ظل وقوع غالبهم تحت الرغبة العارمة فى الظهور الإعلامى التلفازى. قامت أجهزة الدولة والسلطة الانتقالية بتغذية هذه النزعة لدى بعضهم من خلال مقابلاتهم لكبار قادة السلطة الانتقالية، ووقوع بعضهم فى أفخاخ القنوات الفضائية الخاصة ورجال الأعمال، والفضائيات العربية على نحو أدى إلى احتوائهم وتشتيت أفكارهم بعيدا عن التفكير فى مآلات العملية الثورية ذاتها. الأخطر تمثّل فى غلبة المجازات السياسية فى تكييف ما حدث وحدوده، وكيف يمكن تطويره على الأرض، ومن خلال جذب شرائح من الطبقة الوسطى الخائفة والمرعوبة من غياب الأمن، وانتشار الفوضى على بعض مكتسباتها خلال العقود الماضية. وللحديث بقية.