هما طريقان، ولا ثالث لهما، إما.. وإما.. وحتى الآن لا يحس الناس أن الحسم قد فصل بينهما. طال الوقت والشعور الغالب أن معركة دائرة، معركة تبدو غير متكافئة فى أوقات عديدة، حتى ولو لم تكن قريبا من دوائر بعينها، بإمكانك أن ترصد فى مصر انعكاسات تشاحن -إن لم يكن تصارع- رؤيتين أينما وليت وجهك. إحدى الرؤيتين هى الامتداد لما تجذر فى مصر على مدى سنوات وسنوات من مصالح متشابكة، تتخفى أحيانا وتجاهر بنفسها أحيانا أخرى، وفى كل الأحوال لا تخلص لغير «مكاسبها»، وما سوف تحققه حتى لو دكت تحت أقدامها الناس، وهى غالبا ما تفعل، وهى الرؤية التى لم ترَ فى مصر أكثر من «بقرة حلوب» تمتصها، والتى لم يكن لديها مانع من أن تلقى ببضع فُتات إلى طبقات من خدمة المصالح، فى أحضان هذه الأخيرة ظلت تتعاظم وتتعاظم رقائق الفساد، حتى شلت تقريبا أى محاولة للحل الحقيقى والمخلص للمشكلات. وأصحاب هذا الفريق لم يكلفهم الأمر كى يستمروا أكثر من أنهم، فقط، قلعوا ولبسوا، خلعوا رداء مرحلة وارتدوا القناع الذى رأوه مناسبا لمرحلة أخرى، أو باختصار «غيروا يافطة المحل» دون أن يغيروا النشاط. الرؤية الثانية، رؤية الذين يدركون أن «الباقى هو الشعب»، وأن ثورتين قامتا لأجل أن يسترد الناس معنى «الحق»، وأن تنتهى فكرة المنّ والاستجداء، وأن المصريين «مواطنون لا رعايا»، وأن السبيل إلى ذلك لن يكون سوى الحل الناجع الذى يفتح الجرح بمشرط جرّاح، يستخرج العفونة الراسية فى القاع، مهما كان الثمن، لنبنى «على نضافة». المشكلة الحقيقية التى تواجه مصر فعليا، ولا يقل خطرها عما تواجهه على حدودها، أن الذين لم يفعلوا أكثر من «تغيير يافطة المحل» بعد ثورتين، أو الذين «يقتنصون» المتخمين بما يبتلعونه من مكاسب وثمار منذ عقود، يتصدرون المشهد الآن «وفاتحين صدورهم»، بل وبدوا فى تصدير «النيولوك» بتاعهم. هؤلاء منهم من يسد فعليا شرايين مصر بنفسه أو بورثة جدد لنفس التوجه، لأنهم وببساطة يحجبون الفرصة عن أى دم جديد مخلص ويمتلك المعرفة الحقة وعلى استعداد أن يسهم ويعطى، ويئدون أى كفاءة فى مهدها، لأنها تهدد وجودهم. أستطيع أن أحكى عن «ورثة» جدد، هم امتداد أصيل لتيار أخذ مصر باتجاه الهاوية، تيار يؤكد أن الدولة فى معظم الأحيان ما زالت تتبنى شعار «اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش»، وأن شعار «أهل الثقة هم الأولى من أهل الخبرة» هو المهيمن، فى أى قطاع تتصوره، من أصغر دائرة حكومية وحتى أدق أجهزتها، كأن الأمر نوع من الإرث الذى تتناقله مصر فوق ظهرها، يقصم ظهرها وتئن تحت وطأته ولا تريد أن ترفعه. أستطيع أن أذكر بأمثلة واضحة تجليات صارخة لهيمنة هذا التيار فى قطاعات متباينة، سمحت لى الظروف بالاحتكاك عن قرب بها، وسوف يصيبك العجب: كيف لبلد مر بما مررنا به، كيف لبلد خلع حكمين، لا يملك وضوح الرؤية الكافى ليتبين «التيار الأبيض من التيار الأسود»، أو كيف تسود نفس الرؤية المظهرية الانتهازية الساعية لتحقيق مكسبها ولو على حساب البلد، والتى لا يحتاج كشفها إلى أكثر من نظرة تضع معيار المصلحة الحقيقية لمصر وناسها؟! كيف مثلا تحارب رؤى علمية تنموية متكاملة، تدرك معنى وأهمية وقيمة تنمية البشر فى محاولات التصدى لكارثة «العشوائيات»، القنبلة الاجتماعية الموقوتة، لحساب مقاولين قدامى جدد، لا يرون فى الحكاية أكثر من إضافة أرقام جديدة لثرواتهم، بتكلفة لا تتجاوز بياض ودهان سكن.. ويمكن من غير حمام؟! كيف يهمش أصحاب كفاءة وعلم حقيقى، بل وخبرة، فى أوج مرحلة البذل والعطاء، فى قطاعات محورية، لأنهم ليسوا من أهل الثقة، أو لأن الآلية لا تسمح ولن تسمح لهم «بالطفو» فى ظل «سيستم» عقيم، يبدو كأنه أعد لسد الشرايين خصيصا؟ أينما وليت بصرك وأرهفت السمع سوف تصل إليك الأصداء العاكسة لمعركة حقيقية، معركة نقفل الجرح على ما فيه، ونحط الشاش والبلاستر ونقول العملية نجحت ونقبض، وابقوا هاتونا بقى، أو نأتى بالخبرة والمعرفة ونفتح وننقى ونطهر، ونبنى على نضافة. كنت كثيرا ما أرى رؤية العين طوال حياتى العملية كيف أنه كلما امتلك الإنسان أدوات أكثر وأعمق قلّت فرصه عمليا وفعليا. وكان التفسير بسيطا: الضعف البيّن «لأهل الثقة» سرعان ما ينكشف أمام أى كفاءة حقيقية، والآلية الدفاعية المتاحة للعجزة من أولى الأمر هى: وأد اللى راسه تبان! كان ذلك قبل الثورتين، ولعله كان أحد أهم الأسباب التى قادت إليهما. يحدث فى مصر الآن -مع الاعتراف بأحقية الكاتب يوسف القعيد فى الملكية الفكرية للعنوان- معركة، على حسمها يتوقف المسار.. والمصير.. ولن يطول وقت الحسم.