فى 4 فبراير 1965 نشرت مجلة «صباح الخير» رسالة شخصية للكاتب والناقد والمفكر الدكتور لويس عوض، والرسالة كانت موجهة إلى الأستاذ إلهام سيف النصر، الصحفى والكاتب بمؤسسة «روزاليوسف»، ومدير تحرير سلسة «الكتاب الذهبى»، هذه السلسلة التى كانت تصدرها المؤسسة. وكانت قد أصدرت فى ذلك الشهر كتاب «يوميات طالب بعثة» للدكتور لويس عوض، يقول عوض فى رسالته: «أحب أولًا أن أشكرك على مقالك الكريم عن كتابى الضائع (يوميات طالب بعثة)، وقد وردت به عبارة أرى أن من واجبى تصحيحها وهى العبارة التى تقول إن الأستاذ كنارى تقاضى منى مبلغًا جسيمًا مقابل رد أصول الكتاب إلىّ، والحقيقة أن الأستاذ كنارى لم يتقاضَ منى شيئًا إطلاقًا رغم أنى تطوعت بأن وعدته بنسبة 10 فى المئة من مكافأة الطبعة الأولى، ولا أزال عند وعدى، باعتبار أنى نظرت إلى مخطوطى الضائع نظرى إلى شىء مفقود يستحق من يعثر عليه مكافأة قانونية». ويسترسل لويس عوض فى الرسالة لشرح الملابسات التى صاحبت العثور على هذا الكتاب بالصدفة، وكذلك الردّ على السيد إلهام سيف النصر الذى اختلق حكاية أن كنارى تقاضى مبلغًا ضخمًا، رغم أن هذا لم يرد على الإطلاق فى مقدمة «كتاب» لويس عوض، الذى صدر بالفعل عن السلسلة التى يشرف على تحريرها إلهام سيف النصر، وإن دلّ هذا على شىء، فيدل على أن السيد مدير التحرير لا يقرأ المادة التى يشرف على تحريرها، حتى لو كانت مادة مثيرة مثل هذا الكتاب، ولكاتب عملاق من طراز لويس عوض. وعندما يذكر اسم لويس عوض، لا بد أن تتداعى سلسلة أفكار وكتب ووقائع ونظريات وترجمات ومعارك، فبداية من ديوانه المثير «بلوتلاند»، والذى طالب فيه بهدم عمود الشعر، وكتب مقدمة أثارت جدلًا ونقاشًا على مدى عقود تالية. وكانت مقدمة الديوان التى كتبها عوض تحمل عنوانًا مستفزًّا هو: «حطموا عمود الشعر»، وأعلن فيها أن الشعر العربى مات عام 1932 بموت أحمد شوقى، ولم تكن ميتته ميتة مؤقتة، ولكنها ميتة أبدية، «ومن كان يشك فى موته فليقرأ جبران ومدرسته وناجى ومدرسته. أما شعائر الدفن فقد قام بها أبو القاسم الشابى وإيليا أبو ماضى ومحمود حسن إسماعيل وعبد الرحمن الخميسى وصاحب هذا الكتاب»!! هذا عن ومن المقدمة، ولكن مَن يتجوَّل فى قصائد الديوان سيدرك الأهمية التى تنطوى عليها قصائده، وسيلحظ مدى التأثير الذى تركه هذا الديوان فى الشعر فى ما بعد، فهل يصدّق أحد أن الفقرة التالية، والمنشورة فى الديوان، كتبت عام 1940، وتقول الفقرة: (جنيّة ليها ريش اتمددت عريانة تتشمس على الحشيش وطبقت خجلانة ستاير الرموش حرّ الجنوب لفحها قالت تعال حوش). سوف نلاحظ أن هذه الفقرة وأخواتها تركت أثرًا عميقًا فى أشعار صلاح جاهين وفؤاد حداد فى ما بعد. وإذا كان «بلوتلاند» مثيرًا للغاية، فذلك لأن صاحبه كان صاحب ثقافة واسعة، وقد ترجم عددًا من الكتب والروايات، ونشرها له الدكتور طه حسين فى السلسلة التى كان يشرف عليها فى منتصف الأربعينيات وتصدر عن مؤسسة الكاتب المصرى. وكان لويس فى ذلك الوقت يمدّ الحياة بالمواد الثقافية الغزيرة، فضلًا عن محاضراته الطليعية فى الجامعة. وكان أن قامت ثورة 23 يوليو عام 1952، ولم يتوارَ لويس عوض أمام الأزمات الديمقراطية آنذاك، فكتب سلسلة مقالات جريئة، ونشرها فى الصحف والمجلات آنذاك، ثم جمعها ونشرها فى كتابه المهم «لمصر والحرية»، وفى ذلك الوقت كان لويس عوض يدعو إلى الفكرة المصرية. وأسّس دارًا للنشر سماها دار «إيزيس»، ونشر عام 1954 كتابًا تحت عنوان «المسرح المصرى». وأكّد فيه أن فن المسرح أصوله الأولى كانت مصرية، واعتبر أن مراسم دفن الموتى التى كان يقوم بها المصريون القدماء، ما هى إلا الشكل الأول لفن المسرح، ثم انتقل بعد ذلك إلى الإغريق بعدما كانت بذوره الأولى فى مصر القديمة. بعدها انخرط لويس عوض فى الكتابات النقدية عن المسرح، وقدم إلى المكتبة المصرية والعربية دراسات عديدة، وكانت هذه الدراسات تمثِّل وجهة نظر خاصة وفاعلة وجادة وتنطلق من موقف فكرى عميق، بين النقاد الممارسين للفرجة، فكانت دراساته تقف مع دراسات علِى الراعى وأحمد عباس صالح كحائط صد فى مواجهة التسطيح والتزييف التى تأخذ الظواهر بعيدًا عن مرماها الحقيقى. وتعرَّض عوض لواقعة الاعتقال التى شملت معظم اليساريين فى أواخر عقد الخمسينيات، وفى المعتقل أجبرته إدارة السجن على تنظيف الحمّامات للإمعان فى إهانته، وبعدها بقليل خرج عوض من المعتقل ليستكمل مشواره الثقافى. وكتب دراسته المهمة عن ابن خلدون، والتى نشرت فى صحيفة «الجمهورية» واستدعت هذه الدراسات لردود أفعال كثيرة من جهة كتاب ومثقفين كبار من طراز أحمد رشدى صالح وآخرين، وبعدها نشر كتابه «على هامش الغفران» عن الشاعر أبى العلاء المعرى، وساعتئذ هاجمه المحقق العلّامة محمود محمد شاكر بضراوة، واتهمه باتهامات شنعاء، ونشر محمود شاكر كتاباته عن لويس عوض فى مجلدين ضخمين تحت عنوان «أباطيل وأسمار»، وقد كتب الأستاذ نسيم مجلى كتابًا ضخمًا تحت عنوان «معارك لويس عوض»، ورصد فيه كل معاركه القديمة والحديثة. وجدير بالذكر أن لويس عوض بعد أن تعرض لهذا الهجوم القاسى، كتب مقالًا شهيرًا على مجلات وزارة الثقافة التى نشرت المقالات الهجومية عليه، وكانت النتيجة أن أغلقت هذه المجلات بالضبة والمفتاح، ودون عودة إلى الأبد، وكذلك جاء نشر كتاب «يوميات طالب بعثة» إفراطًا فى دعوة لويس عوض للتوجُّه المصرى، إذ كانت لغة الكتاب بالعامية المصرية، ثم نشر روايته المثيرة «العتقاء أو تاريخ حسن مفتاح»، وهى رواية تتعرَّض للحركة الشيوعية فى عقد الأربعينيات. وإذا كانت هذه هى مآثره النفيسة فى عهده الماضى، فقد ظل مثيرًا للجدل حتى رحيله، إذ نشر سيرته الذاتية «أوراق العمر»، والتى أصرّت أسرته على عدم إعادة نشرها لما فيها من شجاعة تتناول أسرارًا عائلية، كذلك هناك كتابه الآخر «فقه اللغة العربية»، والذى صادرته السلطات فى حينه، تحت نعرات رجعية. وها نحن نقبل على ذكرى ميلاده المئة فى 21 ديسمبر من هذا العام، فماذا ستفعل المؤسسة الثقافية الرسمية مع هذه الكتابات، وأمام رفض عائلى، وأمام مدّ سلفى رجعى، فى ظل مؤسسات ثقافية لا تريد التخلُّص منه، ومؤسسات تعليمية تكرّس لهذا المد، وكذلك مؤسسات سياسية ودينية عملاقة تدعمه بأشكال أخرى ناعمة وغير مدركة، مهما طفت على السطح بعض التصريحات لهذا المسؤول، أو ذاك الوزير.