هل هناك حقاً ما يُطمئِن الرئيسَ السيسى إلى كفاءة الإعلام المصرى؟ فلقد اقتصرت نصحيتُه إلى الإعلاميين على مسألة فرعية واحدة تخصّ الالتزام بعدم الإساءة أثناء الردّ على الحملات المتجنية من الآخرين، وأعرب عن أمله فى أن يصل إعلامُنا بهذا الالتزام إلى الدرجة التى يُضرَب به المثل فيها حتى يصير فى مقدورنا أن نقول للعالَم إن لدينا مدرسة منفردة فى الإعلام. وبغض النظر عن التسليم، أو التحفظ، على أن يكون من مسؤوليات الإعلام أن يتولى الرد على مثل هذه الحملات، سواء بالالتزام أو بالانفلات، فإنه كان ينبغى الإقرار بأن الإعلام المصرى يمرّ بأزمة حقيقية وأن فراسخ تفصل بيننا وبين المستوى المأمول، كما أنه لا يمكن لأحد أن يزعم أن إعلامنا كان متفوقاً يوماً ما، بل إن الثورة قامت ومن أهم شعاراتها أن يكون لمصر إعلام يقوم برسالته التى على رأس أولوياتها تلبية حق المواطنين فى معرفة الأخبار وخلفياتها ومَن هم المحركون لها وتفسير كيف تجرى الأمور واحتمالات سيرها وترجيحات ما سوف يترتب عليها..إلخ، وأن يعالِج الإعلام كل هذا فى أطار فنون الوسائل المطبوعة والمسموعة والمرئية. وأما الإعلام المصرى المملوك للدولة، من صحف وإذاعة وتليفزيون، فإن أزمته قديمة ومعقدة وتتداخل فيها الأسباب والنتائج، وقد دخل مع عصر مبارك نفقاً مظلماً، عندما تلاشت القضايا الوطنية والقومية واحتلت المصالح الخاصة صدارة النشاط العام، وباتت السياسات العامة للوطن تُوضَع بلا شفافية وبمعزل عن أى مشاركة شعبية أو حتى نخبوية، وأصبح من واجبات الإعلام أن يقوم بالتخديم على تحقيق هذه الأهداف ومؤازرتها، فى حين وُضِع على رأس المؤسسات الإعلامية آحاد من أنصاف المواهب، أو من المتلاعبين بما يعرفون، ممن لا يعنيهم سوى إرضاء صاحب القرار الذى نفحهم مناصبهم بمزاياها ومنافعها الهائلة، وأتى هؤلاء بدورهم بمن هم أقل منهم كفاءة ليسهُل عليهم قيادهم، وأنعموا عليهم بدورهم بالمناصب التنفيذية التى تقوم يومياً بتدوير ساقية اختلط فيها الإعلام، الذى من المفترَض ألا يعنيه سوى الجمهور، بالدعاية التى لا يهمها سوى الحاكم. وجرى تجريف المجال من أصحاب الكفاءات الحقيقية، الذين دُفِع بهم دفعاً إلى خلفية المشهد، ولم يعد لأحد منهم نفوذ فى تسيير العمل، بل لم يُتَح لأحد منهم مساحة للنشر أو زمن فى الإذاعة والتليفزيون إلا بشق الأنفس وبشروط تُبدِّد أى إمكانية للتعبير عن الرأى بحرية. والحقيقة أن ما حدث بعد 30 يونيو هو مجرد تغيير طفيف فى بعض رؤساء العمل، وأما القاعدة التى تشدّ إلى الخلف فما تزال على قوتها ولا تزال تنعم بصلاحياتها إلى حد يُكبّل أحياناً المسؤولين الجدد! هل تريد صورة للخطأ القديم المستمر بثبات مثير للدهشة؟ انظر إلى نشرة الأخبار على التليفزيون، وقارِن مع عصر مبارك، ستجد أن كتالوج العمل لا يزال كما هو وفق قائمة البروتوكول الرسمية التى لا تقبل أن يتصدر أحد مكانة الرئيس، فتأتى أولاً أخبار الرئيس، حتى لو كانت مقابلات روتينية لا تتضمن تفاصيل سوى العبارات المحفوظة غيباً عن مناقشة تطورات الأوضاع فى المنطقة ودعم العلاقات الثنائية بين البلدين والشعبين..إلخ. أين تفاصيل أخبار داعش والحوثيين واضطرابات ليبيا؟ وأين أخبار أوكرانيا؟ بل إين أخبار مركبة الفضاء الهندية التى نجحت فى الدخول فى مدار المريخ من أول محاولة؟ وكيف فعلها الهنود؟ هذه كلها تأتى مختَصَرَة أو يُكتفى بعرضها فى جملة واحدة على شريط الأخبار الدوّار! بل إن خبر التأجيل غير المتوقع للحكم فى قضية مبارك جرى حذفه فى نشرات المساء، مما أجبر الجماهير العريضة إلى اللجوء إلى القنوات الخاصة والأجنبية لمعرفة تفاصيل الخبر وأسبابه وتبعاته! هذه العقلية التى لا تزال تتحكم فى معظم وسائل الإعلام ترى أنه عليها أن تدافع عن الخط الرسمى بكل ما هو مسَخَّر تحت يدها، كما أنها تقترف خطأ أفدح بتجاهل ما ترى أنه قد يؤدى إلى وضع المسؤولين فى حرج! وهم يفعلون ذلك حتى مع الموضوعات المهمة التى تحظى باهتمام الرأى العام! ومن ذلك غض الطرف عن المخطط الذى يُدار بشكل مركزى، الذى لا يمكن إخلاء ذمة جماعة الإخوان من التورط فيه، والذى يدير ماكينة أكاذيب وشائعات يومية من المفترَض أن يوليها الإعلام اهتماماً، بتبيان ما تحتويه من مغالطات والمستهدَف منها، ليس من باب الدفاع عن الحكم، وإنما لأنها قضايا تهم الرأى العام صاحب الحق الأصيل فى المعرفة والذى هو فى الأساس الهدف الأول للإعلام. مثلاً، ينال مشروع تطوير قناة السويس جانباً عظيماً من هذه الحملات المشبوهة المنظمة، بعضها يكتسى بعض المنطق لنسبته إلى من يوصَفون بأنهم خبراء دوليون فى شق القنوات وفى علوم المياه، وبعض هذا الكلام مثير للبلبلة لتشكيكه فى فنيات المشروع بعيداً عن الأمور السياسية. ولكن إعلامنا، بدلاً من أن يتناول هذه الحملات بشكل مهنى يفند فيه الأخطاء ويعرض الحقائق التى ينتظرها الشعب المتعطش لما يهديه، إذا به يتعامى عن كل هذا ويكتفى بعرض عدد محدود من الفيديوهات للقطات افتتاح المشروع وتحركات اللوريات العملاقة التى تنقل الرمال، ويتكرر عرضها بشكل ممل مئات المرات يومياً مصحوبة بأغنيات من عقود خلت توقظ ذكريات الماضى بدلاً من أن ترسم أحلام يومنا! والمفروض أنه ليس هنالك ما يعيب فى الاعتراف بكل هذه الحقائق المؤسفة وفى ذكرها وتكرارها علانية، بل إن هذا أول شرط للبدء فى الإصلاح. وأما الخطأ الحقيقى فهو القفز فوق الواقع التعس وافتراض أن لدينا مؤسسات إعلامية لا ينقصها لبلوغ الكمال إلا بعض الرتوش!