عدا العشرات من اللجان التى اخترعتها حكومات السطو المسلح على السلطة أو البرلمانات المزورة وأطلقت عليها جميعا وصف «لجان تقصِّى الحقائق» بينما الهدف منها هو تدبيج الأكاذيب، فإن تاريخنا الحديث يحفظ فى أضابيرة أسماء ثلاث لجان مهمة ارتبطت بكوارث وطنية خطيرة، أولاها «لجنة ملنر» والثانية «لجنة العطيفى»، فأما الثالثة -يارب تكون الأخيرة- فهى لجنة «الأستاذ صبحى» أو لجنة «المستشار البشرى + صبحى». اللجنة الأولى شكلتها الحكومة البريطانية برئاسة اللورد ملنر فى شهر سبتمبر من عام 1919، أى فى عز احتدام ثورة المصريين العارمة ضد الاحتلال وطلبا للاستقلال الكامل، آنذاك جاء السيد ملنر إلى مصر حاملا خطة وضعتها حكومته «لتهدئة الأوضاع» وإجهاض الثورة، عبارة عن حزمة إجراءات شكلية تافهة تُبقِى البلاد محتلة وتحت وصاية بريطانيا لكنها فقط تجمّل الصورة الكريهة برتوش لا تقدّم ولا تؤخّر، غير أن اللورد ولجنته اضطروا إلى العودة من حيث أتوا بعدما أمضوا ثلاثة أشهر يبحثون من دون جدوى عمّن يقبل خطتهم أو حتى مجرد اللقاء بهم والتفاوض معهم.. وقد انتهت اللجنة بنفى الزعيم سعد زغلول وصحبه للمرة الثانية (إلى جزيرة سيشل)، ثم لما بقيَت جذوة الثورة مشتعلة أصدر البريطانيون تصريح 28 فبراير 1922 الذى منح مصر استقلالا صوريا وحافظ على جوهر احتلال مقيت ظل جاثما على صدر الشعب المصرى لأكثر من ثلاثة عقود بعد ذلك. وفى مطلع سبعينيات القرن الماضى (1972) سمع المصريون ب«اللجنة» الثانية التى اشتهرت باسم رئيسها الدكتور جمال العطيفى الذى كان آنذاك يشغل منصب وكيل مجلس الشعب، وقد تشكلت للتحقيق فى ملابسات وأسباب أولى حوادث التوتر والاحتقان الطائفى الكبيرة (أحداث الخانكة)، التى نعرف أنها تفاقمت واستفحلت على مدى العقود الأربعة التى عشناها من أيامها حتى الآن بسبب -ضمن أسباب أخرى- تجاهل التوصيات والاقتراحات التى انتهى إليها تقرير اللجنة المذكورة. و.. بعد مأساة الاحتلال ومصيبة الفتنة الطائفية حلّت علينا ثالثة لجان الكوارث «لجنة المستشار البشرى + الأستاذ صبحى» التى اصطفى المجلس العسكرى أعضاءها من دون سائر خلق الله فى هذا البلد لكى يعدلوا الدستور الساقط ويرسموا مسار عملية الانتقال من ماضٍ أسود كئيب إلى مستقبل كنا وما زلنا نحلم أن يكون أجمل وأكثر إشراقا تتحقق فيه أهداف الثورة كاملة غير منقوصة ولا مشوهة. والحقيقة أننى ما كنت أقدم على فعلة إهدار وقت حضرتك وتبديد مساحة ثمينة من زاوية حضرتى هذه يومين متتاليين (أمس واليوم) فى كلام عن اللجنة المذكورة أعلاه، لولا أن مستنقع الفشل والضياع والفوضى الشاملة الذى نتردى ونتخبط فى أوحاله حاليا وأجبر شبابنا على إطلاق ثورة ثانية، صنعه وتسبب فيه ذاك المسار الشاذ المعوجّ الذى «افتكسه» الأستاذ صبحى وصحبه الكرام وقصقصوه وفصّلوه ونَجّدوه تنجيدا رديئا على مقاس أختنا «الجماعة» وأخينا «العسكرى» وعلى حساب السيدة مصر وخصما من مصالح شعبها. هل تظن أننى أكتب هذه السطور اليوم لكى أذكّرك وأسمم بدنك للمرة المليون بتفاصيل الخطة المسمومة المشؤومة التى وضعَتها لجنة «المستشار والمحامى» وانتهت بنا إلى الحال الذى تراه؟ أبدا والله، فقط كل ما أريده وأبتغيه أن أنعش الأمل فى صدرك وأطمئنك بأن لجنة الكوارث «التالتة» سوف تكون «تابتة»، وآخر اللجان والأحزان إن شاء الله.. فى هذ القرن على الأقل!