تعد ثورة 1919 التى اندلعت فى التاسع من مارس منذ تسعين عاما من الثورات السياسية الخالدة فى تاريخ مصر الحديث، فقد جاءت هذه الثورة نتيجة للشحنة الكامنة فى نفوس المصريين ضد الاحتلال منذ عام 1882، فكانت حانقة من تصرفات السياسة البريطانية، ومتحفزة للثورة ثم جاء اعتقال الوفد المصرى الذى كان يستعد للسفر إلى مؤتمر الصلح بباريس للمطالبة باستقلال مصر بمثابة الشرارة التى أشعلت فتيل الثورة التى استمرت فى اشتعالها وانتقل صداها إلى جميع أنحاء مصر. وقد اتسمت ثورة 1919 بشموليتها واشتراك جميع طوائف المصريين وفئاتهم الاجتماعية فيها من طلاب وموظفين وعمال وفلاحين وتجار ومحامين حتى الأمراء والوزراء والأعيان والمرأة، وقد رفع شعار وحدة عنصرى الأمة «الهلال يعانق الصليب» وخطب القمص سرجيوس على منابر الجوامع وشيوخ المسلمين على منابر الكنائس، وتعتبر الفترة مابين ثورة 1919 وثورة 1952هى العصر الذهبى لمشاركة الأقباط سياسيا، ويعزى هذا الشمول الذى اتسمت به الثورة إلى فداحة ما أصاب مصر والمصريين من جراء الأجانب والاحتلال البريطانى سواء على الصعيد السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى. وبقدر قوة الثورة جاءت نتائجها وكان حصادها، الإفراج عن سعد زغلول وصحبه، وبضغط من الثورة سافر الوفد المصرى إلى باريس للمشاركة فى مؤتمر الصلح، لكن ذلك تم بعد فوات الأون حيث كان المؤتمر فد أنهى أعماله وأغلق أبوابه ولم يجد له مؤيدا أو نصيرا من ممثلى الدول الكبرى. ومع ذلك فقد استمر سعد زغلول وأعضاء الوفد فى باريس لتوضيح عدالة القضية المصرية، ونظرا لشعور الحكومة البريطانية بنقمة المصريين على سياستها وما تسبب عنها من قيام الثورة فكرت فى معالجة الموقف بإرسال لجنة إلى مصر للتحقيق فى الأمر وبحث الوسائل الكفيلة بالتهدئة، لذلك أعلنت فى 15مايو 1919إيفاد لجنة برئاسة اللورد ملنر وزير المستعمرات وتفويضها فى تحقيق أسباب الإضرابات وتقديم تقريرعن أحوال مصر. وانتهت المفاوضات بين سعد وملنر والتى جاءت فى أعقاب لجنة ملنر بالفشل، وهذا وضع طبيعى لتباين وجهة نظر الطرفين، غير أنها كانت البداية نحو وضع آلية للتعامل مع الطرف البريطانى، والتى تمثلت فى سياسة الخطوه خطوة، أو خذ واطلب، وكانت البداية أيضا لسلسلة من المفاوضات المرهقة والمضنية انتهت بمعاهدة 1936. وفى أعقاب فشل مفوضات سعد ملنر ،جاء الصدام بين سعد وعدلى يكن وأدى إلى شق الصف الوطنى، وهو ما عجل بإصدار بريطانيا تصريح 28 فبراير 1922، فى أعقاب فشل مفاوضات عدلى كيرزون فى أواخر سنة 1921، وإذا كان تصريح 28 فبراير 1922 من طرف واحد، إلا أنه اعترفت فيه إنجلترا لأول مرة بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وإنهاء الحماية البريطانية، وعلى الرغم من أنه استقلال مشروط بشروط محددة، فإنه يعتبر خطوة أولى فى سبيل الاستقلال الفعلى للمصريين، وكذا تلقب السلطان فؤاد بلقب الملك فؤاد وأصبح زمام الخارجية بيدها. فى ذات الوقت جاء صدور دستور 1923 ليشكل جانبا مهما من حصاد الثورة والذى تمثل فى أصدار قانون الانتخابات وما ترتب على ذلك من إجراء أول انتخابات نيابية فى مصر فى ظل الدستور، والتى جاءت نتيجتها انتصارا مدويا للوفد فى مواجهة القوى السياسية القديمة (الحزب الوطنى) والقوى السياسية الناشئة (حزب الأحرار الدستوريين)، كما جاءت شاهدا على نزاهة حكومة يحيى باشا إبراهيم التى أرادت نجاح العملية الانتخابية، وجاءت هزيمة رئيس الحكومة فى دائرة منيا القمح بمديرية الشرقية شاهداعلى نزاهة الحكومة ورئيسها، وبهذا شكل سعد زغلول فى 1924أول حكومة دستورية. فى ذات الوقت جاء ظهور حزب الوفد إلى النور، إلى جانب ما خرج منه من تشكيلات حزبية أخرى مثل الأحرار الدستوريين، والهيئة السعدية والكتلة الوفدية لتشكل جانبا مهما من حياة مصر الحزبية، وشارك الأقباط فى هذه الاحزاب. من جهة أخرى جاء إصدار مجموعة من القوانين لتطهير الإدارة المصرية من الأجانب، ويأتى على رأسها قانون تعويضات الموظفين الأجانب، وإذا كانت مصر قد دفعت من أموالها تلك التعويضات فالمال يهون أمام تحرير الإدارة واستقلال البلاد. أما الحصاد الاقتصادى فتمثل فى أعقاب الثورة دعوة «طلعت حرب» رائد الاقتصاديين المصريين إلى تأسيس بنك مصر أغسطس 1919، وقد تجسد هذا الطموح فعلا سنة 1920، كنتيجة لبيئة ما بعد الثورة، فكان بذلك نواة النهضة الاقتصادية والمالية التى ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى 1914 1918. كما تجسد الحراك الاجتماعى فى تشكيل فرق الكشافة المصرية فى المدن والأقاليم، وزيادة الدور الاجتماعى للنوادى الرياضية، كما تمتعت المرأة بمزيد من الأدوار الاجتماعية، من خلال تأسيس الجمعيات النسوية والقيام بأعمال البر والإحسان والتعبير عن قضايا الأمة والمرأة فى الصحف والمجلات. وتأثر مجال الإبداع الفنى والأدبى الذى تفاعل مع الثورة، فبقدر ما ساهمت الأعمال الإبداعية فى الحشد للثورة والتعبير عنها وإيصال رسالتها للجماهير، أو اتخذتها موضوعات لها فى السنوات التالية، بقدر ما كانت التغييرات المجتمعية التى أحدثتها الثورة فى مصر دافعا لتطور الإبداع الأدبى والفن. هكذا جاءت ثورة 1919 رائدة فى حجمها، ورائدة فى ثمارها، وميلاد جديد لآمال وطموحات الشعب المصرى نحو الاستقلال والتقدم فى شتى المجالات، وعليه فقد أفرد لها تاريخنا الحديث والمعاصر مكانة تستحقها.