أسعدنى الوقت أن ألتقى الروائى الكبير محمد ناجى فى أثناء وجوده فى القاهرة. صاحب «خافية قمر» عاد مؤخرا من باريس بعد أن غاب فترة طويلة فى رحلة علاج طويلة، أجرى أكثر من عملية، ويواظب على برنامج علاجى طويل، سيعود بعد إجازة القاهرة إلى باريس ليستكمل رحلة الصبر والصمود، ومع ذلك لم يفقد ابتسامته ولا تفاؤله ولا حسه الإنسانى الرفيع. وإذ يؤمن ناجى بأن الكلام هو «فانوس المجالس» كما قال فى إحدى رواياته، فإنه لا يتردد فى أن يجيب عن كل ما نسأل، عرفته مبكرا كأحد أقطاب الديسك المركزى فى جريدة «العالم اليوم» الاقتصادية اليومية فى بدايتها، بينما كنت ما زلت حديث التخرج والعمل، فى تلك الفترة كانت أسماء كثيرة كبيرة تعمل فى هذه الجريدة: صلاح هلال وكمال القلش ومحمد صالح ومحمد العزب موسى وسعد هجرس ومحمد ناجى، انتهت تجربتى فى «العالم اليوم»، ولم تنته علاقتى مع ناجى، عرفته هذه المرة بشكل أعمق من خلال رواياته المتتالية، أسمّيها «مغامرات فى مشروع واضح المعالم»، علمت فى ما بعد أنه تشكل على نار التجربة، تخرج ناجى عام 1969 فى قسم الصحافة بكلية الآداب، اكتوى جيله بنار الهزيمة، وأصقلته حرب الاستنزاف، وانتصر فى رمضان، عادوا من الحرب ليشهدوا تغيرات اقتصادية شاملة، أدت إلى تغيرات اجتماعية أعمق، كانت محاولات ناجى المبكرة فى مجال الشعر، وحتى عندما اختار أن يكتب الرواية كتبها بقلم شاعر، وبهموم جيله كله، وبوعى كامل بتراثنا الشعبى والأسطورى، كتبتُ مقالات نقدية كثيرة عن روايات ناجى، لاحظتُ أنها روايات أسئلة مفتوحة، كل رواية يمكن أن تركز مغزاها فى سؤال أو عدة أسئلة. فى «خافية قمر» السؤال الأبرز هو: كيف نعرف الحقيقة إذا كان موضوع المعرفة والباحث عنها متقلبين ومتغيرين؟ وسؤال «لحن الصباح» هو: كيف تطلبون مجتمعا يخلو من التشوهات (بدنية ونفسية واجتماعية) فى ظل غياب العدل؟ والسؤال فى «مقامات عربية» هو: مَن يلعبْ بمَنْ؟ السلطان بالسلطة أم السلطة بالسلطان أم أن الاثنين ألعوبتان فى أيدى الزمن؟ والسؤال فى «العايقة بنت الزين» هو: مَن كسب الحرب.. الذى انتصر فى الجبهة أم الذى جمع الغنائم فى الداخل؟ والسؤال فى «الأفندى» هو: كيف يمكن أن تعيش لنفسك فقط دون أن تفقد جزءا من نفسك/ من قلبك/ من روحك؟ والسؤال فى «رجل أبله.. امرأة تافهة» هو: هل الحياة مجرد أفكار كبرى أم تفاصيل تافهة فقط أم الاثنان معا؟ والسؤال فى «ليلة سفر» هو: هل تنجح الذاكرة وحدها فى سد الشروخ سواء ما بين الأجيال أو فى جدار المنزل أو فى جدار الوطن؟ وسؤال «تسابيح النسيان» هو: هل نستطيع أن نكون بالذكرى بعد أن كنا بالجسد؟ لكننا قررنا هذه المرة أن نتبادل الأدوار، سألناه فأجاب، تذكر وحكى وانطلق كاشفا عن ثقافة واسعة وعميقة، وعن تفاعل حقيقى مع المعرفة، يصف باريس بأنها مثل فيلم جميل رأى الأفيش الخاص به، ولكنه لم يدخله، كان أسير المستشفى، وحجرة المنزل، يرى أن البيروقراطية الفرنسية أسوأ وأكثر تعقيدا من البيروقراطية المصرية، كان يذهب من أقصى باريس إلى أقصاها التماسا لورقة تسهم فى تجديد الإقامة، لكنه أيضا لم يتوقف عن الكتابة، أنجز عدة روايات منها «قيس ونيللى» التى نشرت على صفحات «التحرير»، يقول ناجى إنه كتب أيضا صفحات طويلة من مذكراته، كتب عن سنوات التكوين، وعن شهادته على عصره وزمنه، لا يتردد ناجى فى أن يقرأ المشهد السياسى البائس بعد سنوات ثلاث من الثورة، يبدى بوضوح امتعاضه من فشل النخبة السياسية الكامل، يتذكر أسماء عرفها قصفتها هموم الحياة ومشاغلها فاختفت رغم موهبتها العظيمة، يحدثنا عن روائى عبقرى اسمه وليم ميخائيل أهدى إلى ناجى روايته المخطوطة «جاك والجن»، يصفها ناجى بأنها من أعظم ما قرأ عن فترة ما بين حربى 67 و73، اختفى هذا الأديب بعد أعاد ناجى المخطوطة إليه تمهيدا لطباعتها، حاول صاحب الخافية أن يعثر عليه بلا جدوى، عاش وليم حياة صعبة بين الفقر والسجن، يتذكر ناجى كثيرا من الأسماء الموهوبة: نجيب شهاب الدين، أسامة الغزولى، يحيى الطاهر عبد الله، نكتشف أنه يتابع إنتاج كثيرين من الروائيين العرب والمصريين، يبتهج بالتجارب الجديدة كأنه مؤلفها، قراءات ناجى متنوعة، والقاعدة الوحيدة لديه هى أن يقرأ بمنتهى الجدية، يحكى نوادر مدهشة بحسّه الساخر، يطلعنا على أولى رواياته فى نهاية المرحلة الإعدادية، كتبها فى كشكول مدرسة، عنوانها «ابن الخادمة». ابن مدينة سمنود النبيل، عاشق التراث والأسطورة والبشر والأماكن لا شىء يفوق رواياته إلا فوانيس كلماته، عرفت أخيرا سر محمد ناجى. سرّه فى هذه الروح الإنسانية الباذخة التى تظلل من حوله، لا أحسب أن روحا مثلها يمكن أن تهزم أبدا.