سعيا لتعليم ابنتى القراءة الحرة باللغة العربية لتعتاد هواية القراءة، ذهبنا إلى مكتبة «دار المعارف» فى وسط البلد، ثلاثة موظفين شباب يجلسون بوجوه خالية من الحماس فى مكتبة خاوية من الروّاد والمشترين، رغم يوم الإجازة الأسبوعية والإجازات الصيفية ورغم رخص أسعار الكتب.اليوم صار للمكتبة لافتة حديثة لامعة يتقاسمها إلى جانب اسم «دار المعارف» اسم الشركة الثالثة للمحمول، بشكل يبدو أنه جعل كثيرين يدخلون المكتبة فقط للسؤال عن دفع فاتورة أو شراء خط، لدرجة أدت بإدارة المكتبة إلى وضع ورقة على باب المكان، مكتوب عليها أنه لا يوجد فرع لشركة المحمول بالداخل، يبدو أن مَن يريد خدمات المحمول أكثر بكثير ممن يريد اقتناء الكتب. كنت أبحث عن سلسلة المكتبة الخضراء تحديدا، تلك الحكايات والمغامرات التى كنت أقرؤها وأنا فى المرحلة الابتدائية، ووجدت الأعداد بالفعل أمام باب المكتبة مباشرة، حائط بأكمله عليه أكثر من 50 قصة مختلفة مرصوصة بعناية لا يتعدَّى سعر النسخة الواحدة ستة جنيهات. كانت زيارة المكتبة كأنها رحلة بآلة الزمن إلى الطفولة، كل الكتب التى كنت أقرؤها موجودة هناك، منها سلسلة «أولادنا» التى تحوى الروايات العالمية المترجمة للنشء، ومنها كل أعداد «المغامرين الخمسة» التى بحثت عنها كثيرا ولم أجدها، ومنها أعداد من كتب مصوَّرة «ميكى» المترجمة عن الفرنسية تعود حقوق الطبع بها لعقود مضت، وبها أعداد سلسلة «اقرأ» التى تحوى كتبا مميزة فى شتى اتجاهات المعرفة، هذا غير أعداد «سندباد» القديمة.. كأنها رحلة بآلة الزمن بالفعل. رغم التراث الذى يمتد منذ عام 1890 فإن المكتبة كألماسة مترّبة لا يعيرها أحد اهتمامه رغم قيمتها، ربما طريقة العرض أو طريقة تصميم الأغلفة وجودة الطباعة التى لا تجذب المتحمسين للقراءة، هذا رغم انتشار المكتبات الخاصة الحديثة فى السنوات الأخيرة التى تذهب إليها الطبقة المتوسطة، ومساهمتها فى تنشيط بيع الكتب، واستعادة بعض الرواد الشباب للقراءة والترويج لظاهرة «الكتب الأعلى مبيعا»، وحفلات توقيع الكتَّاب لكتبهم. فلمَ لا تتبع مؤسسة «دار المعارف» الحكومية وسائل مشابهة لتسويق ما تحويه من كنوز؟ صحيح أن هناك فرقا كبيرا بين أسعار إصدارات «دار المعارف» والكتب التى تباع فى المكتبات الخاصة، باعتبار أنها مؤسسة قومية تقدم خدمة، ولكن ممكن أن يؤدى فرق الأسعار إلى حركة شرائية أعلى باعتبارها فى متناول الجميع، بل إن الأسعار الزهيدة من المفترض أن تكون ميزة تنافسية للدار، تسهم فى التخلص من أعبائها المادية الضخمة، خصوصا مع اتباع أصول الإدارة الحديثة والرشيدة. إن تحديث المكتبات دون التضحية بأصالة العالم القديم الذى يعيش داخلها ليستمر من جيل إلى جيل هو التحدى الحقيقى لمؤسسة فى عراقة «دار المعارف»، وهو جوهر فكرة الأصالة مع المعاصرة التى لم نحققها فى المجتمع بعدُ.