أعتقد أننى سوف أنهى حياتى كلها، طالت أم قصرت، قبل أن أنهى قائمة المستبعدين والمظلومين من الكتّاب والمبدعين المصريين، هؤلاء الكتّاب الذين كانوا فى يوم من الأيّام ماثلين فى المشهد الثقافى والفكرى والإبداعى والنقدى بشكل كبير، وبالطبع لا مجال هنا لإعداد هذه القائمة، لأنها بالفعل طويلة، ومثيرة للأسى، رغم أن القائمين على أمر الثقافة فى مصر يدركون قيمة من تتضمنهم هذه القائمة، وعلى رأس هؤلاء الناقد الراحل الكبير أنور المعداوى، الذى كانت حياته عزف أوتار درامية حادة، الذى فتح أبوابا واسعة للأدباء المصريين والعرب إلى طريق الشهرة والتحقق والمجد، والذى يطالع المجلد الضخم الذى أعدّه الناقد الراحل أحمد محمد عطية، ويتضمن هذا الكتاب مجموعة كبيرة من رسائل الشعراء والمبدعين العرب، سيدرك كم كان المعداوى مرموقا وملاذا لكثير من هؤلاء المبدعين الذين صاروا نجوما فى سماء الأدب والثقافة، ومن هؤلاء نزار قبانى وسهيل إدريس ومحمد مفتاح الفيتورى وعبد الوهاب البياتى ومحمد عفيفى مطر وغيرهم، وتلك الرسائل كانت ترسل إليه عندما كان يعمل فى مجلة «الرسالة» بين أعوام 1948 و1952، وكان قد صعد نجم المعداوى بشكل صاروخى فى تلك السنوات، وأصبح من أهم النقاد فى تلك السنوات، كما يكتب تلميذه وصديقه الناقد الراحل رجاء النقاش، ولا ينسب النقاش هذه الأهمية إلى غياب النقّاد الكبار لأسباب متعددة، لكن لأن المعداوى الذى كان يكتب بابا ثابتا فى مجلة «الرسالة» تحت عنوان «تعقيبات»، كان قد جاء بوجهة نظر فى الأدب أحدثت أثرا كبيرا، وردود فعل، اتفاقا أو خلافا، كثيرة، ودخل فى معارك لا حصر لها، للدرجة التى كان قلمه عنيفا، ويطال كثيرا من الأدباء والمفكرين المصريين الكبار، الذين بدورهم لم يكفهم الرد عليه بالقلم، بل وصلت شكاواهم إلى النيابة فى بعض الأحيان، ومن هؤلاء كان الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى، الذى تعرض لهجوم كاسح من المعداوى، ولم تكن هذه المعارك إلا وقودا للإضاءة على وجوه المعداوى النقدية والفكرية الفاعلة فى ذلك الوقت، وكان هو يتعامل مع نفسه كأحد فرسان الحروب فى ذلك الوقت، ويدخل فى سجالات مع مثقفى اليسار واليمين فى آن واحد، ولم ينتسب فى يوم من الأيام إلى أى من الفريقين، وهناك معركة واسعة قد خاضها عند نشر رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوى، واعتبرها المبشّرون بالاتجاه الواقعى، الرواية الأهم والأروع والأبدع فى عالم الرواية المصرية، وأنها تتفوق على كل الروايات المصرية التى ظهرت فى مصر، وكان المعداوى له رأى نقيض تماما، حيث اعتبرها نوعا من المنشورات السياسية، وما هى إلا ريبورتاج صحفى مطول، ولا يصح أن تهدر قيمة الإبداع الفنية، لكى تمرّ الفكرة السياسية، وقد فنّد ذلك كله الناقدان رجاء النقاش فى كتابه «بين المعداوى وفدوى طوقان»، وعلى شلش فى كتابه «أنور المعداوى»، وفى كتاب رجاء النقاش الذى نشر فيه سبع عشرة رسالة من المعداوى إلى «حبيبته» الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، سنلاحظ أن أهمية الرسائل لا تقتصر على الجيشان العاطفى، الذى يرسله المعداوى إلى فدوى، بل لأن الرسائل تكشف عن «المعمل» الداخلى للحياة الثقافية المصرية والعربية فى ذلك الوقت، ففى رسالة كان قد أرسلها المعداوى إلى فدوى بتاريخ 6 أغسطس عام 1952، يبوح لها بما تهيم به روحه من مشاعر وأعباء، ثم يخبرها عن مرضه وعن العملية الجراحية التى أجراها، وسوف يعود إلى مسقط رأسه، حيث والدته التى ترعاه ويرعاها، ويرتبطان ببعضهما ارتباطا ملحوظا، وهو كثيرا ما يتحدث عنها، وفى سياق الرسالة يكشف لنا المعداوى عن كواليس النشر والثقافة ومفردات الحياة الثقافية المركبة فى تلك الفترة، وكذلك عندما يهتم ناقد كبير ومهم ومسموع الكلمة مثله، بشاعرة جيدة مثله، فهذا يعنى دفعا لهذه الشاعرة، وكثير من النقاد الآخرين يتابعون الاهتمام بها، وبالفعل فاسم فدوى طوقان أصبح كبيرا بعد الدعم الذى قدمه لها أنور المعداوى، وبمعاونته راحت الصحف تنشر الأخبار والمقالات عن ديوانها «وحدى مع الأيام»، ولم يكن اهتمام المعداوى بفدوى مبنيا على كونه يحبها ويرتبط بها عاطفيا، لكنه كان مقتنعا بها كشاعرة، وإن كان رجاء النقاش أجرى مقارنة بين قصة المعداوى وفدوى، وقصة مى وجبران، فكلا التجربتين لم تتم، وافتقدت إلى البعد الجسدانى، وظلت تسبح فى جوّ روحانى فقط، فضلا عن الأبعاد الأدبية والثقافية التى تسم التجربتين بميسم متشابه، لذلك فرسائل المعداوى تعد أحد إبداعاته النوعية والرقيقة فى الأدب العربى. وبعيدا عن ذلك لم ينشر المعداوى فى حياته سوى كتابين، هما «نماذج فنية» عام 1951، و«على محمود طه» بمعاونة الناقد العراقى محيى الدين إسماعيل عام 1965، ونشر فى وزارة الثقافة العراقية، وبعد رحيله نشرت دار الآداب البيروتية كتابا عنوانه «كلمات فى الأدب»، كان الدكتور غالى شكرى جمعه وقدمه للنشر، وما عدا ذلك، فهناك حشد من المقالات والدراسات والأبحاث والتعقيبات والمداخلات النقدية والشذرات الفنية، منشورة فى بطون المجلات والصحف، وتكفى لأكثر من خمسة مجلدات على الأقل، ما زال هذا الحشد من المواد الفكرية والثقافية يصرخ بنا لإنقاذه، وأعتقد أن ناقدا كبيرا مثل الدكتور جابر عصفور، لا تخفى عليه الأهمية الفكرية والتاريخية لكتابات المعداوى، ودونها لن نستطيع أن ندرك تطور النقد الأدبى فى مصر والعالم العربى فى تلك المرحلة، لذلك فأنا أهيب به بأن يقوم بتكليف إحدى المؤسسات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، بجمع هذا التراث، ونشره لتعم الفائدة على الأجيال التى لم تتعرف على ناقد عظيم مثل أنور المعداوى.