البرادعى لم يكن سفينة، وهذه كانت أول صدمة لمجاريح المعارضة فى السنة الأخيرة لمبارك، كما أنه لم يكن «مسيحا سياسيا» يوعد بحل كل المشكلات، و«يعدل المايلة»، ويحقق باللمسة الساحرة كل ما يحلم به المصريون. إنه الشخص القادم من خارج الدائرة المنهكة بالصفقات والملفات، ليفتح باب الأمل. البرادعى لم يكن سوى إشارة لكسْر ترسانات الملل التى حكم بها نظام مبارك 30 سنة، «الأمل فى مواجهة الملل»، هذا ما مثله الظهور الأول للبرادعى فى السنة الفاصلة، ولم يكن صدامه مع جيش الدفاع عن مبارك، بل كان صداما مع الموديلات الجاهزة فى العمل السياسى. البرادعى قادم من ثقافة سياسية مختلفة، ولهذا بدت حركته بعد الاستقبال الأول مرتبكة، ومتلعثمة، وهذا ما اعتبرته وقتها ميزة، لأنها حركة تخرج به من حيز الموديلات الجاهزة، والقوالب المصنوعة إلى آفاق أخرى لا يمكن إغفال تأثيرها فى تحفيز الخيال الجديد الذى قاد ثورة 25 يناير. لم يكن البرادعى قائدا، ولا زعيما مُلهَما، ولم ينضبط على أى موديل حتى الذى صنعه المقربون منه. لم يقع البرادعى فى فخ الصورة المصنوعة له، وهذا أفقده كثيرا من المنتظرين.. وكثيرا من الفاعلية السياسية أحيانا، لكنه ظل فى موقع خاص جدا، لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن انتظاره أيضا. لم تكن المظاهرات تنتظر إشارة من البرادعى، كما أن الحملات عليه اشتركت فيها شرائح من المتحالفين معه، فهو مختلف، والسياسة لعبة المتشابهين كما تعلمناها فى زمن الكاكى. البرادعى جسر للعبور إلى مكان آخر، لا بناء جاهز للإقامة فيه، هذا هو الفرق الذى جعل المنافسة على الرئاسة تمثل للبرادعى خطوة فى طريق الأمل، وبين أنها نهاية الطريق لعدد من المرشحين أو مكافأة نهاية الخدمة أو بداية خدمة جديدة لمرشحين آخرين. وبينما كانت قيادات من جماعة الإخوان المسلمين يخرجون من مكتب الدكتور الجنزورى رئيس الحكومة، ويعلنون مباركتهم لوجوده ويصفونه بالإخلاص، كان الدكتور محمد البرادعى يعلن بيان انسحابه من الترشح على منصب رئيس الجمهورية. التوقيت ليس صدفة، لكنه ذهاب إلى الخنادق، وتجييش فى معركة تبدو قريبة بين الثورة والسلطة، هل اختار البرادعى الثورة، واختارت الجماعة السلطة؟ مصر فى مفترق طرق فعلا قبل أيام من مرور عام على «ثورة لم تكتمل»، كما يراها ثوار يرون المجلس العسكرى حامى النظام، ويراهم المجلس العسكرى مخربين يسعون إلى إسقاط الدولة. البرادعى اختار الخروج من لعبة تتم تحت قبضة «الأخ الأكبر» الباحث عن موقع «الأبوة الشاغر».. إلى أين؟ المعلومات تقول إن البرادعى اجتمع مع مجموعة من المجلس العسكرى الأسبوع الماضى، التفاصيل لم تعلن، ولا وردت فى بيان الانسحاب، لكن الانسحاب نفسه يأتى غالبا «نتيجة» لهذا الاجتماع. هل اكتشف البرادعى أن فرصته فى «الرئاسة» ضاعت مع ترتيبات تتم فى الغرف المغلقة بين العسكر والإخوان المسلمين للاتفاق على «مرشح» يكمل البناء الجديد للسلطة؟ أم أدرك أن الصفقة أقوى من تحديها التقليدى بالوقوف فى طابور المرشحين المحتملين؟ مازال الكلام عن طريق البرادعى مستمرا.