ظهرت فئة جديدة من باعة الشوارع، لم يعد يصح أن يُطلق عليهم أنهم «جائلون»، لسبب بسيط أنهم مقيمون فى أماكن ثابتة، يعرفهم زبائنهم ويقصدونهم دون مجهود، كما أن أغلبية هؤلاء لم يعد ينطبق عليهم أنهم «غلابة» يبحثون عما يسدّ الرمق، كما كان الحال بالنسبة لكل باعة الشوارع حتى قبل سنوات قليلة! أنت الآن أمام بيزنس ضخم يعمل فيه جيش منظم، يحملون كميات هائلة من البضاعة يُقال إن معظمها مهربة، ويرتبون عرضها بما لم يحدث فى تاريخ مصر قبلاً، وكأنهم يتحدون الجميع، وكأنهم يعلنون عدم اكتراثهم بالقانون، على الأرصفة وفى عرض الطريق، فوق مناضد ممتدة لعدة أمتار، وشماعات عملاقة تدور على عجلات، ويستخدمون مانيكانات ترتدى عينات من تجارتهم، ويعلقون على كل هذه السلع لافتات بالأسعار، وهناك من يبدأون برصّ البضائع، ومن يجيدون سرقة الكهرباء من أعمدة الإنارة لتضيئ مصابيحهم العملاقة مجاناً، فى وقت تُعَطِّل فيه الحكومة هذه الأعمدة خفضاً للاستهلاك، وهناك من هو متفرغ للنداء على السلع، ومن هم متخصصون فى إقناع الزبائن، وآخرون يقومون بالتحصيل، وهناك مخازن فى الجوار تبيت فيها البضاعة المتبقية حتى اليوم التالى الذى تُستجلَب فيه كميات إضافية..إلخ إلخ، وفى خلفية كل هذا أجهزة ستريو عملاقة تطلق وابلاً من الضوضاء! هذا خطّ مبيعات متكامل يجرى جهاراً ولم تعد تخلو منه مدينة فى بر مصر، حتى العاصمة، وحتى وسط البلد، وحتى مداخل المترو وعلى سلالم المحطات، ولم يعد هنالك شبر إلا وجرى احتلاله بهذه القوات الزاحفة بثقة وثبات. ووسط هذه الفوضى يندس الغلابة القدامى يبيعون الشاى والقهوة والعرقسوس والعصائر والفُشار واللب والسودانى والترمس والتين الشوكى ولقمة القاضى والسندوتشات وغزل البنات، إضافة إلى البلالين والبمب والشماريخ، فى فوضى لا حدّ لها! هذا التنميط الجديد فى أدوات البيع وفى الأسلوب، يؤكد أن وراء المشهد جهات عملاقة تسيطر على الأمر، وأن أموالها المستثمرة ضخمة وأن عوائدها هائلة، وأنها مستمرة بجاذبية الربح الوفير، حيث لا أعباء فى إيجار أو كهرباء، كما أنهم متحررون من مسك دفاتر ومن سداد أية ضرائب أو رسوم للتأمين على عمالهم..إلخ ويساعدهم أن أجهزة الدولة فى إجازة وليس هناك من يسعى للرقابة والمساءلة. هذا انتهاك للقانون وتهرب من حق الدولة، وهدر لحق عموم المواطنين فى المرور والسكينة، وأول الخاسرين أصحاب المحلات الذين انسدت أبوابهم وفتريناتهم بسبب هذا المشهد، كما أنهم يبيعون نفس السلع ولكنهم مضطرون لرفع السعر بعد أن يضاف إلى قيمة البضاعة كل الأعباء التى يتهرب منها باعة الشارع! كما أن المشى فى الشارع لكل الناس صار معاناة تزداد تفاقماً كل يوم، وكذلك صارت السيارات تزحف ببطء قاتل، أما الضجيج الذى لا يُطاق فقد فاق كل حدّ، وليس هنالك أية بادرة لمحاولة السيطرة على منابعه!! أليس هنالك حل لهذا الاكتظاظ الذى يعرقل الانتقال ويصمّ الآذان؟ ألم يعد للدولة بكل أجهزتها قدرة على تطبيق القانون على الخارجين عليه؟ أين ذهبت وعود الرئيس السيسى ورئيس الحكومة المهندس محلب؟ لقد قيل إن حل الموضوع سيتحقق فى الأسابيع الأولى من بداية حُكم السيسى، وقيل إنه متفهم للمشكلة وأسبابها وأن لديه الحل العاجل، ثم قيل بعد أن حلف اليمين إنه أعطى الحكومة مهلة عشرة أيام لتنهى المشكلة من جذورها، وقال رئيس الحكومة ومحافظ القاهرة إن اتفاقاً قد أُبْرِمَ بالفعل بين ممثلى الباعة والمسؤولين التنفيذيين، وإن الأماكن البديلة للباعة فى طور التشطيب النهائى، وإن الخطة بتفاصيلها موضوعة بدقة للتنفيذ الفورى. ولكن شيئاً من هذا لم يتحقق! وترددت أخبار بأن الباعة يعترضون على الأماكن الجديدة بحجة أنها مكشوفة (فى حين أنهم الآن فى شوارع مكشوفة)! وقيل بل إن شهر رمضان هو السبب فى التأجيل، لأنه موسم الحركة الرائجة للبيع والشراء! وكأن رمضان جاء فجأة دون توقع! ثم قيل إن الموضوع سيتم بلا تسويف مباشرة بعد العيد، والعيد بعد يومين وليس هنالك أية إشارة جادة تنم عن حسم الأمر. الواضح، والذى يجب أن يضعه المسؤولون نصب أعينهم، أن هذه الأوضاع هى أفضل ما تكون لهؤلاء الباعة، حيث يحصلون على أكبر فائدة دون أن يلتزموا بأية أعباء، وهم يعلمون أن مجرد انتقالهم إلى أماكن تشرف عليها الدولة فإنه سيكون عليهم أن يلتزموا بكل ما يُفرَض على أصحاب المحلات. لم يطلب أحد طرد أو معاقبة هؤلاء الباعة، لعوامل إنسانية، إضافة إلى أن لنشاطهم دوراً اجتماعياً بما يوفره من احتياجات قطاعات عريضة، لذلك كان الكلام عن وجوب أن تتوفر لهم أماكن بديلة، فى إطار احترام القانون والحفاظ على مرافق الدولة التى تكلفت الملايين لكى تكون عامل تسهيل على حياة الناس، لا أن يجرى هدرها لصالح فئة محدودة مهما كثرت أعدادها، إذا كنا نحسبها مقارنة بعموم الشعب. وليس مطلوباً أن نعود للمناظر المؤسفة التى تطارد فيها الشرطة الباعة وتصادر بضاعتهم، ثم ليعودوا بعد ساعة إلى ما كانوا عليه، وإنما أن يُحلّ الموضوع من جذوره، وإلا فنحن إزاء قنبلة موقوتة بدت بعض نذرها مؤخراً فى صدامات دامية بين أصحاب المحلات وبعض هؤلاء الباعة، وعرفت منطقة وسط البلد لأول مرة استخدام السلاح النارى فى المشاجرات، كما أن سكان المنطقة وصل بهم الإحباط إلى مدى يأس يُخشى من تبعاته بعد أن لم تُبدِ أجهزة الدولة تجاوباً مع شكاواهم.