لم يعد مشهد المومياء فى القفص كافيا. مبارك الملتصق بسريره الطبى، لم يعد مهما، ولا محاكمته يمكن أن تكون بديلا لإقامة جمهورية جديدة، لا تدور فيها الدولة كلها تحت إرادة شخص واحد. وهذا ما يجعل الظهور الدرامى لزوجة مبارك، هو نوع من بعث القبور، أو إحياء نظام ميت. سوزان لا تملك شيئا خارج إرادة النظام. إنها عائلة ملعونة بشهوتها فى خلود السلطة، وتحاول الدفاع عن نفسها على طريقة المسلسلات التليفزيونية. والإعلام لم يصل إلى مستوى اللحظة ويتعامل إما بخبث أو بسذاجة مع الوضع ليصنع من أشلاء مبارك طرفا فى المعركة، فتظهر وجوه من المحاربين القدامى فى جيشه، يظهرون على الشاشات، ويكشفون عن بضاعة منتهية الصلاحية، مستهلكة، لكنها تستخدم لكى تلتهمها آلة الاستهلاك الكبيرة. الدراما الفاقعة فى المحاكمات تقول إن المشهد أصغر من الثورة، وإن وضع الفرعون فى القفص، لم يعد كافيا للشعور بأن الثورة تحققت. الديكتاتور فى القفص، لكن الديكتاتورية تطل من خلف شبكة مصالح واسعة تريد منع الثورة من الاستمرار. وهذا ما يتحقق عبر السيطرة على الإعلام والتليفزيون، الذى يريد استهلاك الثورة وتحويلها إلى موضوع تصبح فيه مجرد وجهة نظر، يقابلها وجهة نظر أخرى لجيش الدفاع عن مبارك ونظامه وأيامه. مبارك النائم فى القفص، بالملابس البيتية، مستسلما لتأثير مهدئ قوى، لم يحفظ أولاده من قبضة المجهول، فتركهم أسرى تأثير خبرتهم التليفزيونية، ودرجة قوة المهدئ. جمال فى الجلسة الثانية دخل كهفه، بينما كان علاء الأكثر فظاظة. كلاهما فى لحظات الدفاع اليائس ضد لعنة لا يعرف أحد آخرها. الأب النائم ديكتاتور، لكنه أب، وزعيم مافيا انتهى دوره، لكنه ما زال معلقا بين لحظتين، عرف الأولى يوم التنحى ويوم قال «حاضر يا افندم» ولا يعرف ماذا ستكون اللحظة الثانية. القاضى أنهى اليوم المعركة التليفزيونية.. وهذا ما قد يصيب الديكتاتور وعائلته بالاكتئاب، فقد ضاعت فرصتهما فى إظهار قوة مصنوعة فى مواجهة المجهول المنتظر. إنها حقا عائلة تعسة، تتعامل بسلطانها القديم، وتواجه الناس ببجاحة، وهى تنتقل بين سيارات الإسعاف وسيارات الترحيلات، إلى متاهة لا يعرفون خريطتها. الديكتاتور يتثاءب. جرعة المنوّم أو المهدئ زائدة فى الجلسة الثانية. الديكتاتور ينام على الهواء وأمام جماهير أفسد حياتها 30 سنة. الجماهير ترى غروبه لحظة بلحظة. تراه هو وأولاده فى معركة يعرفون أنها تليفزيونية، لحظات الظهور هى فرصتهم الوحيدة لتوصيل رسالة بأنهم قادرون على التبجح. النظرات التى تبدو واثقة، مصنوعة، من «أبطال» يتصرفون بإحساس الهروب من مصير مجهول. الديكتاتور بالروب دى شامبر، بملابس البيت، القفص أصبح امتدادا لبيته. إنه تليفزيون واقع سياسى. والمعركة تدار أمام الشاشات.. ليبدو مبارك بمؤيدين يمارسون العنف لتعطيل المحاكمة. والصحافة تكتب: حرب بين مؤيدين ومعارضين للرئيس السابق. هذه محاولة لكى يدخل فى اللا وعى أن المحاكمة خطوة ليست نهائية، وأن «الزمن» سيعود إلى ما قبل 25 يناير. كيف يكون للديكتاتور معارضون وهو الآن مجرد متهم؟ أنصار الديكتاتور، كومبارس عصابته، يلعبون دورهم الأخير ربما، مجرد بلطجية لا مشروع سياسى لديهم سوى صور مطبوعة بركاكة وبكاء وصرخات ووجوه محفور عليها مشاعر هستيرية. هل هذا كل ما تبقى من نظام مبارك؟ أم هذا هو المشهد المقصود أمام التليفزيون: رجل عجوز فى لحظة الخرف، ينام بملابس البيت وعلى سرير المرض أمام التليفزيون، وأولاد متماسكون، ومؤيدون يطاردون أُسر الشهداء. مشهد لا وجود له خارج الشاشة. مبارك وعائلته ونظامه بلا قيمة الآن، أسلحته منزوعة، ووجوده أسير قُوى غير مرئية، تدفعه إلى المجهول. ماذا سيفعل مبارك إذا حصل هو وأولاده على البراءة؟ هل سيعودون إلى البيت؟!