أحب قيسنا نيللى، شبكهما سهم كيوبيد على سلم البنك الأهلى. هى خمَّنت أنه رجل أعمال، وهو استنتج أنها من أسرة أرستقراطية، وكانت المظاهر تغرى بذلك. الحقيقة التى أخفتها نيللى أنها تقيم مع فنان عجوز، شبه خادمة، فتاة تسمح ببعض العبث أحيانا. احتضنت نيللى رنّة الموبايل بفرح قبل أن ترد بصوت تمثيلى هادئ: هالو قيس باشا. كيف عرفتِ أننى قيس؟! لخبَطَ أفكارها من أول جملة، وهو أيضا كان مرتبكا؛ ينقطع عن الحديث فجأة، ويعود إليها بعد لحظات. تحمَّلته بشغف وهى تحاول أن تخمِّن انشغالاته. واضح أن أعمالك كثيرة. كما تسمعين، التليفونات لا تكف عن الرنين، وكلّها اتصالات مهمّة. حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟! وأحيانا حتى الفجر، حسب ظروف العمل. كم ساعة تعمل فى اليوم تقريبا؟ لا أقل من ثمانى ساعات، وربما أكثر. أحسست من أول نظرة أنك شخص جاد .. .. .. ولطيف أيضا. بعد ذلك جرت المكالمة الطويلة المتقطعة وفق سيناريوهات الصّبابة المكتوبة منذ الأزل، وانتهت كالعادة بموعد للقاء. فى تلك الليلة سهر الملاكُ يقلِّب مرايا البرْق فى الآفاق، فيضئ حواف السحب، ويعيد تشكيل السماء. وسهرت نيللى تتنفس خيالاتها، وتشرئب بنظراتها عبر زجاج النافذة، باحثة فى المشاهد العلوية عن بشارات تتمناها. نامت جالسة وهى تسند رأسها إلى صدر السرير، وصاحب ملاكُها الحارس أحلامها بعزف مستعاد من أفلام الأبيض والأسود. ■ ■ ■ حرص قيس على أن يكون موعده مع نيللى يوم "النبطشية الخضراء"؛ دوره فى لبس البذلة المميزة. يتناوب لبسها مع رفيقين زاملاه فى كلية الحقوق، ويسكنون الآن معا غرفة على سطح أحد المبانى العتيقة خلف ميدان "باب اللوق."يتشاركون فى تكاليف المسكن والأكل وبعض الأشياء الأخرى. تعاونوا فى شراء البذلة، ويتبادلون لبسها بالدور، ويسمّون يومها "النبطشية الخضراء". يتشابه الرفاق فى الطول والعرض، ويبدون فى البذلة الخضراء كأنهم خيالات فى مرايا لأصل واحد محتجب، مع اختلافات بسيطة فى بعض التفاصيل؛ أنف، شعر، نظارة، حقيبة، حذاء. باعها لهم ترزى بسعر القماش فقط. كان قد فصَّلها فى الأصل لحساب فنان مغمور يشترى ملابسه من عنده، ويدفع بالتقسيط. اختار الزبون القماش، وجرّب المقاس، لكنه اختفى قبل الاستلام. ربما سافر أو مات أو عجز عن السداد. باعها الترزى بالخسارة قبل أن تصيبها العتَّة، وكانت الصفقة لُقطة بالنسبة للرفاق الثلاثة؛ قماش "هيلد" انجليزى. يغار قيس على البذلة من شريكيه، ويتمنى لو كانت له وحده. ينظفها بالبنزين ويكويها بعناية، ويستعد لها بذقن حليق وحمّام وعطر، ويوفِّق مشاويره ومواعيده المهمة حسب دوره فى لبسها. الليلة؛ كان أكثر حرصا عليها، تمهّل طويلا بعد انتهاء عمله حتى خفَّ المطر، ثم شمّر البنطلون، ولبس فوق الجاكتة سترة من أكياس بلاستيكية وصلها بالبلاستر، وقطع الطريق قفزا إلى مسكنه. كان لقاؤه بنيللى انقلابا مبهجا، صرفه عن التفكير فى تعثّر طموحاته، بل ربما بدا له ما حدث بشارة بحظ أحسن. الآن ثقته أكبر، يرفرف فوق حفر الطريق وبرَك المياه ويحلم بخفّة، لا توجعه حسابات النجاح والفشل. ■ ■ ■ فى غرفة العاشق ثلاثة أسرَّة حديدية ودولاب خشبى وطاولة وبوتاجاز، ولها شرفة على حارة ضيّقة، أما دورة المياه ففى عراء السطح. دخل قيس وهو يسدُّ أنفه حتى لا يتنفس العطن الذى يرشح من رفيقيه. يضايقه ذلك دائما، لكنه يعتاد الرائحة بمرور الوقت. تتكرر المشكلة كل ليلة، فهو يرجع عادة بعد أن تكون الغرفة تشبَّعت برائحة جوف النائميْن؛ ديمترى وحسين. حسين محاسب فى صيدلية، وديمترى جرسون، ينتهى عملهما فى منتصف الليل، أما قيس فيعود بعد ذلك دائما بحكم عمله فى صحيفة "أضواء الغد". هو ليس سعيدا بعمله الآن، لكن الصحافة طريق أحلامه فى النهاية. لديه ترتيبات وخطط لو أفلحت لفتحت له أبواب الدنيا، وقرّبت إليه أى شئ يريده، المهم أن يتخطى عقبة البدايات. الليلة، مع مولد شغفه بنيللى؛ تبدو له الأمور وردية. يتذكر أن مدير التحرير عامله آخر مرّة بطريقة مختلفة، لم ينهره كالعادة وإنما سمعه بصبر ونصحه بلهجة لطيفة: أصبر، ربما تسنح فرصة لنقلك إلى عمل صحفى، لكن لا تلحّ علىّ. ليس أمامه سوى الصبر، يراقب تقلّبات مزاج مدير التحرير ليذكِّره بطلبه فى الوقت المناسب، ويتطوع له بخدمات خارج مهام وأوقات عمله ليكسب رضاه؛ حجز طيران، تسديد فاتورة تليفون، ختم أوراق من النقابة. يراهن عليه لتحقيق حلمه. ■ ■ ■ احتضن قيس شغفه بنيللى، وأدرجها فى سياق أحلامه الكبرى. نطّ بخيالاته من نجاح إلى نجاح، متجاهلا رائحة رفيقيه وشخيرهما. ■ ■ ■ تجنّبت نيللى غرفة بكرى بقية الليل، وعندما جاء هو إلى غرفتها دفعته بمكر إلى الإنصرف؛ أدارت وجهها بعيدا عنه وهى تغطِّى أنفها وفمها، ورفرفت له بيدها تحذِّره: ابعد؛ عندى انفلونزا. كانت وقائع الصباح تبشّرها بحكاية تشبه الأفلام السعيدة، وهى تريد أن تعيش فرحتها، وتخشى أن يفسد بكرى عليها الأمر، لا تضمن تقلّبات مزاجه. حين جاءت إليه أول مرّة بدا كريما وأبويا، عاملها بلطف وكأنه يقوم بعمل من أعمال البرّ، ولم يثقل عليها بالأسئلة ولا بالطلبات. أخبرها أن أهم ما يريد منها هو أن تصحبه فى بعض مشاويره الخاصة وزياراته للطبيب، وأن تتولى صرف مستحقاته المالية وتذكيره بمواعيد الأدوية، ولا يهمه أىّ شئ بعد ذلك. قال بوضوح: بعد ذلك افعلى ما تشائين، وحسب مزاجك. فهمَت أن العمل المطلوب أقرب إلى شغل التمريض والتشهيلات والترفيه، رغم أن إعلانه كان يطلب سكرتيره. لم تجد فرقا بين الأمرين، وهى جاءت أساسا مستعدة لقبول أى عمل وأى وضع، ثم أن المقابل كان مغريا؛ ستمائة جنيه وأكل وإقامة مجانية. اعتبرت العرض استراحة من تشردها الطويل. جاءت نيللى أساسا من بلدها لتكمل الدراسة. نشِّنَت على كليات ومعاهد القاهرة فى رغبات التنسيق الجامعى، لتهرب من الحياة مع أمها فى الريف. قدَّرت أن فرص العمل ستكون متاحة بسهولة، وفرحت بالتجربة؛ دنيا أخرى وزحام وأنوار وحريَّة، لكن البدايات كانت صعبة. بدأت مع امرأة من بلدها معروفة فى الوسط الفنى باسم "جمهور"، شُغْلها أن تجمع البنات ليرقصن بين الصفوف فى حفلات المطربين الشبان، أن تفبرك جمهورا إضافيا يلهلب الصالة، ولكل بنت عشرون جنيها. غلب لقب "جمهور" على اسم المرأة الأصلى، حتى صار أهلها ينادونها به حين تزور بلدها بالسيارة والعباءة الخليجية وأساور الذهب؛ "الحاجة جمهور". كانت رمزا للنجاح. خارج مواسم الغناء عملت نيللى بائعة، وغاسلة أطباق فى مطاعم. لم تكن تكاليف الأكل مشكلة أبدا، بل كانت الأزمة فى السكن، كل فترة فى مكان، ودائما بين غرباء. جاء عرض بكرى بعد تلك الأعمال الطارئة والمؤقته، فقبلته نيللى بفرح. اعتبرته فرصة معقولة للإستقرار والتوفير، وحرصت منذ البداية على أن تُودِع المرتب بالكامل فى البنك، وأن تدبِّر مصروفاتها الشخصية بوسائل أخرى. أحيانا؛ تدبَّرها من فلوس بكرى بطرق ملتوية. أحيانا؛ تطلبها "جمهور" لحفلة فتذهب، ترقص وتقبض عشَرَين جنيها، وتفوز غالبا بعشاء فخم من بقايا الزبائن. مرّة رتّبت لها "جمهور" فرصة "دوبليرة" فى فيلم؛ ضربها ممثل مشهور، وخبطتها سيارة أمريكية، وقبضت خمسين جنيها. باتت فى الأستديو مع الكومبارس، ودخلت غرفة المكياج. من يومها تعتبر نفسها فنانة، وتنتظر فرصة أكبر. ■ ■ ■ باى بيكو.. هاى بيكو.. ■ ■ ■ تغيظ مشاويرها الليلية بكرى. تصارحه بكل شئ تقريبا، لكنه لا يصدقها ويخمِّن الأسوأ. يتحفَّز بخشونة وبذاءة، ويحذّرها: أخشى أن أتسلَّمك ذات يوم من شرطة الآداب. هى واثقة بنفسها، وتفخر بين صاحباتها بأنها لا تزال بختم ربِّها. أقصى حدود المُباح عندها قبلة للخد، كلمه، لمسة، قرْصة، أىّ مكان إلا الحلَمَة؛ تعرف أنها مفتاح الشيطان. الآن وبعد عِشرة طويلة أصبحت تعرف الوجه الخشن لبكرى، واعتادت شتائمه البذيئة. وهى أيضا صارت أكثر جرأة، ترفض وتشاغب وتشتم، لكنها تفعل ذلك دائما بدلع بنات السينما: حبيبى يا معفِّن. كلمة "معفِّن" لها تاريخ فى الكلام بينهما؛ فهو يرفض أى عملية تنظيف أو ترتيب للبيت. يتعلل بأنه يخشى أن تُلخْبط أو تبعثر أشياءة، ويقول أنه يعتبر بقع الطلاء وعناكب الجدران نوعا من الديكور الطبيعى. نبهته عشرات المرات إلى أن البيت معفِّن، وفى النهاية قالت له وهى تشير إلى ملابسه الملطّخة ببقع الألوان والطعام والحروق: أنت أيضا معفِّن يا بيكو. بدأت تمارين الشتم بمهارة؛ كانت تشتم وتبوس وتغرى، وحين تقترب يده من مكامنها تهرب وتنهره بمياصة ممثلات الإغراء: بعد الزواج يا بيكو. آخر حدوده معها قرصة، وربما آخر حدود قدرته. منذ فترة طويلة لم تعد المرأة بالنسبة لبكرى ذلك الرحيق والعطر، ولا ذلك الشغف المشبوب، وإنما صارت مجرد تكوين ووظائف؛ آلة لا ينفعل بها وإنما يفتعل القدرة على تشغيلها، ويستعيد من خلالها خيالات ذلك العبق النسائى. تقوده توهّماته أحيانا إلى قبلة ساخنة، تتشنج معها أصابعه على حافة المخدّة، لكنه رغم تدريباته المتواصلة لم يستطع بث تلك الحرارة فى خد نيللى، ولم تترك قرصاته علامات فى لحمها. كانت نيللى بالنسبة له تذكارا لنساء كثيرات مررن بحياته، يتخيل لها المسارات التي صادفها فيهن، ويستعيد من خلالها حالات الشغف، وانفعالات الغيرة، وعذابات الحرمان. يعيش السيناريوهات مع نفسه، ويفاجئ البنت بين حين وآخر بغضبة عارمة: لا تستخفِّى بعقلى، أعرفك أكثر مما تعرفين نفسك، وأعرف كل الشياطين التي بداخلك. أمضى بكرى شبابه فنانا منطلقا بلا وظيفة ولا مسئوليات اجتماعية، وحرص دائما على تفادى الارتباطات. اضطر مرَّة للزواج من ألمانية لتسهيل إقامته فى بلدها، لكنه غدَر بها بسرعة. ملّ نظامها وبخلها وبرودها وخشونة لغتها، فهرب منها ومن بلدها بعد شهور. انتقل بعد ذلك إلى فرنسا. كانت بداياته فيها صعبة، قبل أن يصادف أصحابا يعملون فى مجلات معارضة للسادات فى المهجر الباريسى، فاستقر بينهم وعمل معهم. اشتغل فى البداية رساما متجولا فى "مونمارتر"، وأقام فى شقة لا تزيد عن عشرين مترا مع ثلاثة عازفين متجولين. كان شركاؤه لا ينامون تقريبا؛ يمضون أغلب الليل فى عدّ واقتسام العملات النحاسية الصغيرة التى تسوّلوها منذ الصباح. أضجره صخبهم ورنين عملاتهم، ففكّر أن يعود إلى الألمانية. اتصل بها ليختبر الأمر، فأخبرته ببرود أنها أنجبت ولدا ربّما كان ابنه، وأنها سمّته "دايان"، ونسبته فى سجلات المواليد إلى صديقها اليهودى. قدّر أيامها أن المرأة تريد إغاظته، لم يتصل بها بعد ذلك، ولم يبال بالأمر على مدى ثلاثين عاما، لكنه الآن بدأ يفكر. يرجِّح أحيانا أن ابنه صار عدوا. لا يميل بكرى للثرثرة مع أصحابه عن ابن الألمانية، وحين يتحدث يحاول أن يوحى بعدم الاهتمام، وكأنه يعتبر الأمر مجرد نكتة أو اختراع خبيث من خيال المرأة. فهمت نيللى الموضوع من نثار الكلام فى جلسات السمر، وقدّرت أنه سبب تقلّباته الغامضة، لذلك كانت تتلقى انفعالاته غالبا بحنان. أحيانا تستدرجه للحديث بطرق ملتوية. تمشّط شعر لحيته بأصابعها وتسأله: من سيرث شقتك هذه يا بيكو؟ وتشاغبه: تعال نتزوج وننجب ولدا نسميه ""شيكو"، يرثك بعد عمر طويل، ويحفظ اسمك بين الناس؛ "شيكو بيكو باشا". يعرف بكرى أن "شيكو بيكو" هو اللقب الرمزى للبهلوان البلاستيكى المشهور فى عالم السيرك الشعبى، لكنه يتجاهل الفكاهة الظاهرة فى حديث نيللى، ولا يستبعد احتمالات أخرى ماكرة. عموما هو لا يهتم بأمر الميراث، ويردد دائما: من بعدى الطوفان.