أعرف أن الرئيس يتبرع بنصف راتبه ليحثّ رجال الأعمال وكبار الموظفين العموميين على التبرع لخفض عجز الموازنة، وهى لفتة يشكر عليها. لكن بنظرة سريعة إلى الماضى القريب، نكتشف فشل كل محاولات إنقاذ مصر بالتبرعات. تقول «الفاينانشيال تايمز» إن هذا التبرع يأتى لتهيئة الأجواء لتخفيض الدعم، ورفع أسعار الوقود، واتخاذ إجراءات تقشف صارمة. انتهى الاقتباس من الصحيفة، وأضيف أن إجراءات التقشف القادمة ربما تتحملها كاملة الطبقة الوسطى الدنيا والبسطاء، بعد أن تهدأ هوجة تبرعات رجال الأعمال، وتبدأ الجوقة السلطوية معزوفتها الخالدة بأن الأغنياء أدوا واجبهم، وأن الدور جاء على الفقراء لتحمل نصيبهم من أعباء التقشف! التبرعات فقر فى الخيال، أو تجنب لاتخاذ قرارات حاسمة. البدايات الصحيحة تكون برفع الدعم عن القطاع الخاص كثيف استهلاك الطاقة، وعن القادرين، ووصوله إلى مستحقيه بطريقة مدروسة تتزامن مع مكافحة الفساد بكل أشكاله، خصوصا فى ما يتعلق بمنح التسهيلات المريبة للمستثمرين فى مناخ اقتصادى غير منضبط، وفى ظل تهرب القطاع الخاص من الضرائب، والتغول على حقوق العمال. الأهم من كل هذا أن تحقيق نهوض اقتصادى ينتشل الدول من عثراتها لا تصنعه التبرعات، ولا يمكن حدوثه فى غياب تصور متكامل دقيق لمنظومة تنمية مستدامة يكون الفقير هو المستفيد الأول من عوائدها. حكومة نظيف قبل ثورة يناير أعلنت عن وصول عوائد التنمية إلى معدلات مرتفعة، لكن بالرجوع إلى الباحث أحمد السيد النجار فى تقرير «الأهرام الاقتصادى» عن تلك الفترة، نكتشف أن تلك العوائد كانت تصب فى جيوب المستثمرين والفاسدين! أى أن الحكومة صنعت تنمية موجهة إلى صالح نخبة معطوبة من رجال الأعمال وكبار الموظفين العموميين! معضلة الإصلاح الاقتصادى ترتبط عضويا بالعدالة القانونية يا سيادة الرئيس، وأمامك فى هذا الشأن ملف شائك، ليتك تقتنع بأنه يتقاطع مع مشكلاتنا الاقتصادية المزمنة، والتى من المؤكد أنها ستتفاقم لو لم يتم التعامل مع ذلك الملف بضمير وحكمة. هل يوجد رجل أعمال أهطل يلقى بملياراته لصنع استثمارات جادة فى أتون مجتمع يعانى من انتهاكات دستورية فادحة، وعشوائية قانونية تنتج عنهما عدالة انتقائية لا تخطئها العين؟ الاستثمار ينتعش فى ظل عدالة مؤسسية تحميه من الفساد. مؤسسات الدولة ستلتزم باحترام الدستور عندما ترى رأس السلطة التنفيذية يعفو عن المحبوسين احتياطيا ممن لم تثبت عليهم أى جريمة. بل وعندما يصدر مرسوما بعدم حبس المتهم احتياطيا إلا لضرورة أمنية قصوى، وليس لأنه يعارض سياسات السلطة التنفيذية. ما يحدث من تجاوزات وتكميم للأفواه لن يصيب المعارضة فقط بالشلل، ولكنه يهدم أى محاولات للإصلاح. الزعامات التى حققت لبلادها طفرة اقتصادية كانت تؤمن أن العدالة القانونية والحرية هما المحرك الأساسى لزيادة معدلات التنمية، ليس فقط لأنهما ضروريتان لتعديل المسار حين ينحرف عن الطريق الصحيح، ولكن أيضا لأنهما تبعثان برسالة اطمئنان للمستثمر. قل لى بربك ماذا يمنع أن تتم محاربة الإرهاب واسترجاع الأمن بالتوازى مع الحفاظ على الحقوق والحريات؟ خذ راتبك كاملا يا سيدى، وسيضع الجميع يدهم فى يدك مستهدفين مصلحة الوطن حين يرون بشائر تحقيق ما سطرته لك.. التبرعات لن تصنع الدولة التى نريدها. نصيحة مخلصة: لا تستهِن بزيادة الضغط على رقاب الفقراء.