هى سخرية الأقدار بكل معنى الكلمة أن يتزامن الاحتفال بالذكرى الأولى لانطلاق ثورة 25 يناير مع خبر اعتقال أربعة من شباب حركة 6 أبريل، بتهمة توزيع منشورات «معادية للجيش والمجلس العسكرى»، واعتبار أن ما تضمنته يمثل «إساءة لسمعة البلاد، وحثا للمواطنين على انتهاك الأمن العام». المنشورات لم تكن تتضمن سوى قائمة الاتهامات المعتادة التى يرددها أنصار الثورة منذ شهور، التى تمتلئ بها الصحف والبرامج الحوارية التليفزيونية من قبيل التراجع عن تحقيق مطالب الثورة، إن لم يكن الانقلاب عليها، إلى جانب التشديد على ضرورة محاكمة المسؤولين عن مقتل نحو ثمانين مواطنا مصريا شريفا فى مواجهات مباشرة بين المحتجين وقوات الجيش، بداية من ماسبيرو فى شهر أكتوبر الماضى ونهاية بهجوم مجلس الوزراء قبل ثلاثة أسابيع. ولكن نيابة جنوبالقاهرة أمرت بحبس ثلاثة من النشطاء الأربعة، وقد تتم إحالتهم إلى المحاكمة، تماما كما المواطن المسكين الذى تم الإعلان عن القبض عليه قبل أسبوعين، أيضا بتهمة توزيع منشورات ضد العسكر، ثم إحالته إلى محاكمة عاجلة خلال أربعة أيام، وسجنه لمدة عام، بينما نحن نعانى الأمرّين من أجل الإسراع فى محاكمة مسؤولى النظام السابق من القتلة والفاسدين. وتم نشر خبر اعتقال نشطاء 6 أبريل الأربعة فى الصحف «القومية»، فى سياق يتماشى مع حملة الهجوم الشرس على الحركات والمنظمات التى لعبت دورا بارزا فى إطلاق أول ثورة شعبية فى تاريخ مصر، لإزالة حاكم طغى وتجبّر وبالغ فى فساده، حتى أراد توريث البلد لابنه. فالنشطاء الأربعة قام بإلقاء القبض عليهم وتسليمهم للشرطة من يصطلح على تسميتهم الآن فى الصحافة والتليفزيون الرسميين ب«المواطنين الشرفاء»، ممن يتم حشدهم وتعبئتهم ضد الثورة والثوار بزعم أنهم المسؤولون عن كل ما فى البلاد من تدهور حاد على مدى العام الماضى. وبافتراض أن مشاعر هؤلاء «المواطنين الشرفاء» حقيقية بالفعل، وأنهم يحبون العسكر حبا جما ولا يمانعون بقاءهم فى الحكم للأبد دون مساءلة أو محاسبة أو اطلاع على ميزانيتهم، خصوصا بعد عقود طويلة من الفساد، فما الذى دفع النيابة العامة لتحريك الدعوى ضد هؤلاء النشطاء، بل وحبسهم رغم معرفتها الجيدة بأن ما تحويه هذه المنشورات يقع بكل وضوح فى إطار حرية الرأى والتعبير، التى كنا نظن أنها المكسب الوحيد والأساسى الذى تحقق إثر ثورة 25 يناير؟ وكيف يمكن تفسير هذه الخطوة لو صدقنا أن هناك جهودا حثيثة تبذل من أجل ضمان مرور الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة فى سلام من دون أن تتحقق تلك التهديدات المفزعة التى روجت لها أجهزة الأمن عن وجود مخطط لإثارة الفوضى فى ذلك اليوم؟ هل هذا إجراء يسهم فى التهدئة أم يؤدى بكل تأكيد إلى مزيد من التصعيد؟ وهل تسهم فى التهدئة كذلك هذه الحملة الشرسة التى تشنها السلطات الآن ضد المنظمات التى تتولى مهمة الدفاع عن حقوق الإنسان فى مصر على مدى السنوات العديدة الماضية؟ لا يملك المرء سوى الدهشة والإحباط فى نفس الوقت من حقيقة أن نظام المخلوع مبارك بكل جبروته لم يقدم على خطوة إغلاق هذه المنظمات ومصادرة ممتلكاتها، بينما تقوم السلطات فى مصر ما بعد الثورة بهذه الإجراءات القمعية الموسعة. غالبية القائمين على هذه المنظمات واجهوا أشرس أنواع الحصار والمضايقة فى ظل نظام المخلوع، ولكنهم رغم ذلك واصلوا عملهم بكل إصرار ونجحوا فى إجبار النظام السابق على الاعتراف بوجودهم ووضع تقاريرهم فى الحسبان. أما نظام العسكر الحالى فلم يكتف بإغلاق منظمات حقوق الإنسان، ولكنه صاحبها بحملة تشويه متعمدة لسمعة العاملين فى هذا المجال وتلطيخهم جميعا بتهمة العمالة للخارج وتنفيذ أجندات أجنبية. وكل من يراجع قائمة المنظمات غير الحكومية التى يتم التحقيق مع المسؤولين عنها فى الحملة الأخيرة لن يجد سوى منظمات تعمل فى مجال فضح انتهاكات حقوق الإنسان فى مصر منذ تولى العسكر شؤون إدارة البلاد. فالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومركز هشام مبارك للقانون ومركز النديم والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان والمركز العربى لاستقلال القضاء ومنظمات أخرى عديدة، كلها لعبت دورا أساسيا فى تركيز الأضواء على قضايا مثلت حرجا بالغا للمجلس العسكرى، وتحديدا فى ما يعرف بقضية «كشف العذرية»، والمجزرة التى تعرض لها المحتجون أمام ماسبيرو وفى شوارع محمد محمود ومجلس الشعب. لم تصمت هذه المنظمات على قضايا التعذيب والقتل فى عهد المخلوع، ومن المؤكد أنها لن تصمت بعد الإطاحة به. وبعد كل ما تكشف من فساد بالمليارات فى عهد المخلوع، التى كان يمثل جزءا منها الاستيلاء على أموال المنح والمعونات الأجنبية، فربما يكون من الأسلم للمجلس العكسرى التوقف عن محاولة تلويث سمعة المنظمات العاملة فى مجال حقوق الإنسان بترويج تهمة تلقى أموال من الخارج. «فباب النجار مخلّع» للغاية فى هذا المجال، ونحن فى بلد يعيش اقتصاده على تلقى المعونات الأجنبية، ومنها مليار وثلثمئة مليون دولار سنويا من الولاياتالمتحدة للقوات المسلحة فقط، لا يعلم عنها أحد سوى قادة العسكر واللجان المعنية فى الكونجرس الأمريكى. كما أن الأموال التى تتلقاها منظمات حقوق الإنسان كانت تأتى تحت رقابة كل الأجهزة الأمنية فى عهد المخلوع بكل ما كان لها من سطوة، وبالتالى لو كانت هناك أى شبهة مخالفة للقوانين القائمة فى هذا المجال، لما كانت هذه الأجهزة انتظرت حتى يتم غلقها بالضبة والمفتاح. ولكن المشكلة الحقيقية أن قوانين دولة الرئيس المخلوع وأجهزته الأمنية القمعية ما زالت سارية، بكل ما فيها من اتهامات مطاطة وعامة، يتم استخدامها وقت اللزوم. كنا نتمنى أن يتعلم المجلس العسكرى من أخطاء المخلوع، وأن يكون احتفاله بالذكرى الأولى للثورة عبر ترسيخ احترام الحريات وحقوق المواطن، بدلا من اعتقال أنصار الثورة ممن كانوا على استعداد للتضحية بأرواحهم لضمان نجاحها.