لست من الذين يضعون حواجز صلبة بين ما الأدب الذى تكتبه المرأة وبين الأدب الذى يكتبه الرجل، لكن هناك بالتأكيد أشكال ورؤى يختلف بعضها عن بعضها الآخر، فليس من الطبيعى أن أقول إن رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، أهم أو أروع أو أجمل من رواية «الرجل الذى فقد ظله» لفتحى غانم، فالفنون ليست درجات ومستويات، ولكنها أشكال ورؤى، لذلك عندما تكتب المرأة عن الجنس فى مجتمع ذكورى، يتلصَّص بضراوة ووحشية على تفاصيل ما تكتبه المرأة، ويفسر هذه الكتابة تفسيرات خاصة وأحيانًا جارحة، ولكن عندما يكتب الرجل فى الموضوع ذاته، فلا توجد هذه التربُّصات التى تكمن فى التعامل مع الكاتبات، وبالتالى فالمرأة تكتب بيد مكبَّلة بأغلال وتقاليد تجعل الكتابة مرتعشة أحيانًا، وهناك الرقيب الذى يقصف أعناق المعانى دومًا فى الكتابة، لذلك تأتى أهمية رواية جريئة وجميلة للكاتبة لطيفة الزيات وصدرت عن دار القاهرة عام 1960، والتى كتب عنها الكاتب والأديب يوسف الشارونى مقالًا بديعًا فى جريدة «المساء» فى 20 يونيو عام 1960، أى بعد صدور الرواية مباشرة، ويؤكد الشارونى فى مقاله أن «رواية الباب المفتوح تتميَّز بأسلوبها الفنى كما تتميَّز بموضوعها، وهى بداية تنبئ بأن مؤلفتها كاتبة جادَّة، ولديها شىء تريد أن تقوله، ونعتقد أنها ستكون أكثر توفيقًا فى رواياتها المقبلة»، وأعتقد أن الرواية كسرت حواجز وتقاليد ما تكتبه المرأة آنذاك، رغم أن كاتبات من طراز فوزية مهران وأمينة السعيد وسهير القلماوى وسعاد زهير وجاذبية صدقى وجميلة العلايلى وغيرهن، كن قد كتبن القصة والرواية، ولكنهن لم يتجاوزن الأسوار التى قفزتها لطيفة الزيات، وذلك لأن لطيفة كانت تحمل تجربة اجتماعية وسياسية عريضة، وشاركت فى الحركة الوطنية المصرية منذ سنواتها الأولى فى الجامعة، وكانت خطيبة مفوَّهة، ولا يشق لها غبار، وتم انتخابها وتصعيدها إلى القيادة العليا للجنة الوطنية للعمال والطلبة عام 1946، هذه اللجنة التى صاغت الملامح الأولى لثورة 23 يوليو، وبعد أن تخرَّجت لطيفة فى كلية الآداب -قسم اللغة الإنجليزية- تزوَّجت من زميلها أحمد شكرى سالم، والذى تخرَّج فى كلية العلوم، وعاشا معًا أيام المطاردة الرهيبة من البوليس السياسى، حتى تم القبض عليه، وزجّ به فى السجن، وحكم عليه بسنوات عديدة، وكانت لطيفة وشكرى يهربان من مكان إلى مكان، ولكن لطيفة بعد القبض على شكرى انفصلت عنه وهو فى السجن، وكان هذا خطأ عمرها الذى كتبت عنه بتكثيف شديد وموجع فى كتابها الاستثنائى «حملة أوراق تفتيش»، وتزوجت بعد ذلك من الناقد والأستاذ الأكاديمى رشاد رشدى، الذى وصفه الناقد الفنى جليل البندارى، بالتمساح، وعقدت لطيفة مقارنة بين البيوت البائسة التى كانت تهرب إليها مع زوجها الأول شكرى سالم، وكانت تجد الراحة النفسية العميقة فى هذه البيوت، رغم عدم أهليتها للسكنى، ورغم القلق الذى ينتابها بين جدران هذه البيوت، وبين البيوت الفاخرة التى وفَّرها لها رشاد رشدى، ولا تجد فيها أدنى راحة أو استقرار، لأنه لم يكن هناك الدفء الطبيعى والحقيقى، وقد انفصلت عن رشاد رشدى فى عام 1965، وقد أفردت فصلًا كاملًا عن هذا الانفصال، حيث إنه كان متمسِّكًا بها، ولكنها كانت مُصرّة على الانفصال. وتعتبر السيرة الذاتية للطيفة الزيات التى كتبتها بوعى حاد، وصدق عالٍ، من أجمل السير الذاتية التى كتبتها كاتبة مصرية وعربية، وهى التى تمرَّست على الكتابة السردية والنقدية والأكاديمية، وتعتبر كتاباتها الإبداعية صياغات فنية عالية لحياتها، وتأملاتها الفلسفية المتعددة، وهذا ما برز بوضوح فى روايتها القصيرة «صاحب البيت»، وهى رواية تعود إلى الخلف، وبالتحديد إلى سنوات الهروب السياسى فى أواخر الأربعينيات، كذلك مجموعتها الشيخوخة، فهى تجسِّد المشاعر الدقيقة للمرأة فى مراحل مختلفة من عمرها، وكتبت لطيفة كذلك مسرحية وحيدة هى «بيع وشراء»، وكذلك رواية «الرجل الذى عرف تهمته»، وقد تحوَّلت روايتها «الباب المفتوح» إلى فيلم سينمائى رائع، وقامت فيه الفنانة العظيمة فاتن حمامة بدور البطولة، وهو دور ليلى، وقد احتفى بها مركز البحوث العربية والإفريقية بشكل يليق بها، وأعدّ مؤتمرًا موسعًا أشرف عليه الدكتور سيد البحراوى، والمفكر حلمى شعراوى، وشارك فى هذا المؤتمر جمع من النقاد والناقدات الكبار المصريين والعرب من طراز فيصل دراج وإبراهيم فتحى ومحمد برادة وجمال باروت وفريال غزول وأمينة رشيد ونعمات البحيرى ورضوى عاشور وسهام بيومى وسعيد الكفراوى وهالة البدرى وغيرهم، وكان ذلك قبل رحيلها بشهور قليلة فى عام 1996، وقد صدرت أبحاث هذا المؤتمر فى مجلد ضخم وأنيق، أخرجه فنيًّا الفنان الراحل عدلى رزق الله. ولم تكتفِ لطيفة بالإبداع الروائى والقصصى والنقدى والترجمة فحسب، بل راحت لتؤسِّس اللجنة القومية لمقاومة التطبيع، فى إطار حزب التجمع الوطنى التقدّمى الوحدى، فى أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، وسيذكر التاريخ أن هذه اللجنة هى التى صنعت حائط صد متين ضد كل أشكال التطبيع المبكرة، وكانت لطيفة الزيات هى مقررة اللجنة، وصدرت عن اللجنة دورية تحت عنوان «المواجهة»، ونشرت فى هذه الدورية كل البيانات والدراسات التى كان أعضاء اللجنة يكتبونها. وقعت فى خجل شديد عندما سألتنى باحثة شابَّة، من أين تحصل على الأعمال الكاملة للطيفة الزيات، وأسقط فى يدى، فلطيفة الزيات ليست لها أعمال كاملة، ونصوصها المنشورة فى دور نشر مختلفة، نفدت ولم يصبح لها وجود، والجدير بالذكر أن لطيفة لها مقالات ودراسات وقصص أخرى لم تضمها كتب، ولكنها منشورة فى مجلات وصحف، متى ننتبه إلى تراثنا الثقافى المهدور والمغدور والمستبعد؟