سامحونى على سخافة السؤال والرائحة الكريهة المنبعثة منه، لكن للضرورة أحكام، والسؤال هو: ما حكم الشرع فى وضوء رجل حمل قربة مملوءة بالفساء على ظهره، هل تُبطل وضوءه؟ لم ينتبه الشيخ إلى عبثية السؤال، والغباء المشع منه، بالله عليكم كيف يمكن أن يعبّئ المرء قربة بهذه الرائحة الفاسدة، لكن الشيخ تجاهل المستحيل ثم فكَّر وأجاب. السؤال ليس خيالًا مريضًا، بل حدث فعلًا فى نهاية الدولة العباسية، حين كان يتنطَّع بعض شيوخ المسلمين على طريقة أهل بيزنطة، ويدخلون فى مشكلات سُفِسطائية جدلية أودت بحياتهم إلى الحضيض وحضارتهم إلى الزوال. هذا ما أحسست به من فتاوى الشيخ ياسر برهامى، عن شرعية تقاعس الرجل عن حماية زوجته من الاغتصاب أمام عينيه إذا كانت حياته مهدَّدة يقينًا بالقتل من المغتصبين، وعدم جواز أن يقتل الرجل زوجته الزانية إذا لم يضبطها ضبطًا شرعيًّا فى الفراش مع عشيقها، (وهل هناك نص أصلًا يسمح بالقتل فى هذه الحالة؟). الفارق بين فتاوى برهامى وفتاوى قربة الفيساء، أن الأخيرة حدثت فى نهاية حضارة عظيمة وصل أهلها إلى كل سبل الراحة والترويح ورغد العيش والرفاهية، فاقتحم الفراغ حياتهم، وأصابهم ملل الترف فلجؤوا إلى السفسطة والجدل العقيم، لكن فتاوى الشيخ برهامى فى زمن بؤس، وحال المصريين عصيب، تلتصق بهم المشكلات والأزمات، كما يلتصق النمل بقوت يومه، ولا يخلو أى وجه من وجوه حياتهم من عكننة وتدهور، (ولم يعد ينقصهم إلا الحديث عن الجنس سواء بالإكراه أو بالخيانة)! قطعًا نحن نعيش فى زمن انحطاط، وقد يكون التعبير قاسيًا، لكنه صحيح للأسف، يتجرّأ فيه على الإفتاء كل مَن قرأ بضعة كتب منفردًا أو درس فى الأزهر، فتكاثر عندنا المفتيون إلى درجة مذهلة، وصار عددهم أكثر من عدد جنرالات المقاهى وأُجراء المظاهرات والباعة الجائلين، مع أن الإسلام واضح ومحدَّد فى شروط الإفتاء العام، وكان معمولًا بها فى زمن الخلفاء الراشدين، وزمن الدولتين الأموية والعباسية، وإن خرج البعض عن هذه الشروط وأفتى فى بعض الناس والتابعين، فوقعت الفتن واشتعلت الحروب وسُفكت الدماء، وما زالت، ويبدو أننا لا نتعلَّم بسهولة ولا نتَّعظ من تاريخنا. والدكتور ياسر برهامى «غاوى» جدل حوله، سواء سهوًا أو عمدًا، وقد تتلمذ فى جزء من ثقافته الدينية على أفكار محمد بن عبد الوهاب، وهذا يفسّر سر كراهيته للحرية ودعوته لتقيّدها، ويصفه بعض أتباعه بأنه فسطاط فى العلم، وآخرون رفعوه إلى مرتبة قد تتجاوز مراتب علماء موثوق بهم ما زالت تعيش الأمة على تفاسيرهم واجتهاداتهم، والسؤال: كيف يُقيّم الأقل علمًا مَن هو أعلى منه؟! فالجاهل قد يصف حامل الابتدائية بأن «متعلم»، وقد يصنّف الحاصل على الثانوية العامة بأنه متبحّر فى العلم، أما الحاصل على شهادة عليا فقد يعلو به إلى مصاف الرسل، وجهل الناس بدينهم منح رجالًا كثيرين ألقابًا دينية عظيمة لمجرد أنهم يجيدون مخاطبة هؤلاء الناس، وصنعوا منهم كهنة شعبيين، فهجر هؤلاء الرجال تخصصاتهم الأصلية، الزراعة أو الطب أو السباكة أو التجارة أو النجارة أو الآثار، وتفرّغوا للدين وتكسّبوا منه أموالًا باهظة ونفوذًا هائلًا، يبارك الله فيهما لو كانا حلالًا. وبرهامى حاصل على بكالوريوس الطب، وأسّس وهو طالب مع آخرين «جماعة سلفية» فى الإسكندرية، وينسب إليه البعض فضل «نشر السلفية» فى مدينة الإسكندرية، المدينة التى دخلت منها الحضارة الحديثة إلى مصر، ويطلق السلفيون على طريقتهم فى فهم الدين والعمل بها «العقيدة السلفية»، ولا أعرف كيف تحوَّلت إلى عقيدة ووفق أى نصوص؟ وهل الإسلام مقسَّم إلى عقائد أم قسَّمه المسلمون إلى عقائد؟ عقيدة السلفيين وعقيدة الإخوان (طبعًا فاكرين صبحى صالح نصيحته الشهيرة «اللهم أحينى إخوانًا وأمتنى إخوانًا»)، وهذه مجرد تساؤلات بريئة فى محاولة للفهم ولا يقصد منها التعريض بأحد، فكل مسلم من حقّه أن يفهم دينه كيفما يشاء ما دام لا يفرض هذا الفهم على الآخرين أو يفتى فيهم فتاوى عامة، قد تصنع ارتباكًا ولغطًا بين الناس. ونعود إلى فتوى الشيخ برهامى عن شرعية عدم دفاع الرجل عن زوجته التى تغتصب أمام عينيه إذا كان متيقّنًا أن الدفاع عنها سيؤدّى إلى مقتله، وهنا قد أسأل: وماذا عن دفاع جندى عن وطنه إذا كان جيش الأعداء كثير العدد والعتاد ومتقدّم تكنولوجيًّا؟ هل يلقى هذا الجندى بسلاحه ويفر بحياته حتى لا يهدرها ما دام أنه متيقّن من مقتله على يد الأعداء؟ هل ترك الحقوق لمغتصبيها أمر شرعى ما دام أن المطالبة بها تقود صاحب هذه الحقوق إلى القتل يقينًا؟ هكذا انهارت حضارة العباسيين وهكذا لا نستطيع الفكاك من تخلّفنا!