شعرت بغمّ وهمّ كبيرين بعد مشاهدتى شريط الفيديو الذى بلغت مدته 16 دقيقة، وأصدرته جماعة «أنصار بيت المقدس» الإرهابية للمدعو أبو مريم، الذى قام بتفجير نفسه وسيارته فى مقر مديرية أمن الدقهلية قبل أربعة أشهر. وبعده بأيام أصدرت الجماعة الإرهابية الأخرى المسماة «أجناد مصر» شريط فيديو مدته نحو 24 دقيقة، تبنت فيه ثمانى عمليات إرهابية دفعة واحدة، استهدفت كمائن رجال الشرطة من نوفمبر 2013 وحتى مطلع الشهر الحالى أمام جامعة القاهرة. وألحقت «أجناد مصر» شريط الفيديو بسلسلة بيانات تبنت فيها المسؤولية عن مزيد من العمليات الإرهابية، التى استخدمت فيها قنابل محلية الصنع مخلوطة بكميات من المسامير والأجسام المعدنية المدببة، لضمان أن تؤدى إلى القتل ويتم تفجيرها عن بعد، التى باتت تخصّصها بوضوح، والتى كان آخرها قتل العميد أحمد زكى من قوة الأمن المركزى فى ساعة مبكرة من صباح الأربعاء، بعد ركوبه سيارة نصف نقل للتمويه من أمام منزله فى مدينة 6 أكتوبر. الإرهابيون زعموا أنهم تمكنوا من لصق العبوة الناسفة فى سيارة العميد زكى منذ فترة ولم يتم اكتشافها، وأنهم اختاروا التوقيت المناسب لتفجيرها كى يضمنوا اصطياد الهدف الثمين مع عدم إلحاق الأذى بالمارة فى الشارع. كما وجه بيان «أجناد مصر» الشكر لمن وصفهم ب«المتعاطفين» الذى يقدمون لهم معلومات بشأن أماكن إقامة وتحركات ضباط الشرطة المستهدفين. شريط فيديو «أنصار بيت المقدس» لم يكن الأول من نوعه، وسبقه شريطان ظهر فى الأول ضابط الجيش السابق الذى حاول اغتيال وزير الداخلية محمد إبراهيم أمام منزله فى سبتمبر، وفى الثانى انتحارى شاب من أبناء سيناء فى أثناء تجهيزه تفجير مقر مديرية أمن جنوبسيناء فى أكتوبر، وقام فيه بإلقاء خطاب قصير أكد فيه تمسكه بإقامة الخلافة الإسلامية، التى رآها قادمة من دون أى شك. أما إمام مرعى، أبو مريم، البالغ من العمر 41 عاما، والأب لأربعة أطفال، فقال إنه على أتم الاستعداد لفراقهم فى سبيل الله، وأوصى إخوته فى الجماعة الإرهابية ب«إعداد العشرات بل المئات من أمثالى من المجاهدين». المحزن فى خطاب أبو مريم المضطرب أنه حاول تقديم كل المبررات لعمله الإرهابى، بداية بالزعم أن الجيش المصرى يتلقى أوامره من الكنيست الإسرائيلى، ولذلك فهو يمنعه وأمثاله من الجهاد لتحرير المسجد الأقصى، ومرورا بالسماح للقوات الأمريكية قبل 11 عاما كاملة بالمرور من قناة السويس لضرب العراق، ونهاية بالقول إن الجنود المصريين يوفرون الحماية «للكفار والأنجاس الذين يتقلبون فى رمال أرض مصر عرايا فى طابا وشرم الشيخ»، متناسيا أنه لم يعد هناك أصلا سائحين أجانب كفار أنجاس يتقلبون عرايا أو بملابسهم كاملة بسبب العمليات الإرهابية التى يقوم بها وأقرانه على مدى الشهور العشرة الماضية. المشترك بين الشرائط التى أنتجها تنظيما «أنصار بيت المقدس» و«أجناد مصر» أن كليهما يبدأ باستعراض سلسلة من المواجهات الدموية التى جرت بين الشرطة والجيش، من ناحية، ومؤيدى التيار الإسلامى وجماعة الإخوان، من ناحية أخرى، منذ 3 يوليو وعزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى، مع التركيز على أحداث فض اعتصامى رابعة والنهضة، وما صاحبهما من قتل للمئات وصور بشعة أخرى لجثث محروقة وأخرى تجمعها الجرارات، طبعا بمصاحبة أناشيد دينية تدعو إلى الجهاد والاستشهاد بلكنة غير مصرية وأقرب للخليجية، حتى وإن كان المنشدون من المصريين. ولاستثارة الهمم ونخوة الرجولة فى بلدنا الذكورى، تتم إعادة مشاهد بالسرعة البطيئة زيادة فى الدراما لرجال شرطة وهم يعتقلون فتيات محجبات ومنقبات من جامعة الأزهر، مع تجاهل تام بالطبع، أن كثيرات من الأخوات الفاضلات لديهن فتوى المشاركة فى الجهاد عبر توصيل زجاجات المولوتوف والقنابل البدائية للإخوة المناضلين فى سبيل الله، وأن قوات الشرطة لم تلق القبض عليهن وهن نائمات فى سكن الطالبات. والمشترك أيضا هو أن كلا التنظيمين الإرهابيين يزعم أن ما يقوم به هو مبرر شرعًا بزعم القصاص والثأر، وأملا فى «شفاء صدور» أهالى وأحباء القتلى والمصابين والمعتقلين القابعين فى غياهب السجون مع كل ما يلقونه من مهانة ومعاملة غير إنسانية. ما أصابنى بالحزن والإحباط الشديدين هو التطابق التام بين ما ورد فى هذه الشرائط الأخيرة، التى بثها عبر مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت، والبيانات التى كانت تصلنا كصحفيين مطبوعة أو عبر الفاكس فى أعوام إرهاب التسعينيات من القرن الماضى فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك، والشعور أننا ندور فى نفس الحلقة المفرغة: أجهزة أمنية مصممة أن القبضة الأمنية الحديدية هى الطريقة الوحيدة الممكنة للتعامل مع هذه الجماعات لكسر شوكتهم، وجماعات تصمم على أن ترد على القتل بالقتل ثأرا وانتقاما. ولم يتعلم تنظيما «بيت المقدس» و«أجناد مصر» الدرس الأهم من التسعينيات، وهو أنه مهما كانت فداحة الخسائر التى تلحق بأجهزة الأمن، فإنها تبقى الأقوى بكل ما تملكه من عتاد ودعم شعبى يفوق التعاطف مع الجماعات الإرهابية، لتصبح النتيجة فقط زيادة أعداد الأمهات من الثكلى والحزانى، ولن يشعر أحد بالتشفى أو إرضاء غرائز الثأر والانتقام. ويبقى الفارق أن إرهاب الحقبة الحالية أشد فتكا وأكثر تقدما وسهولة، خصوصا بعد اكتساب الشجماعات الإرهابية مثل القاعدة وغيرها خبرات قتالية متقدمة فى أفغانستانوالعراق والصومال على مدى السنوات العشر الماضية، وانهيار الأوضاع فى ليبيا بعد الإطاحة بالقذافى، مما سهل تهريب السلاح بكميات كبيرة إلى مصر، وتساهل مرسى مع تنامى نفوذ الجماعات الإرهابية فى سيناء. كيفية إيجاد ثغرة فى هذه الدائرة المغلقة من العنف سيكون التحدى الأكبر أمام الرئيس المقبل، مع إدراك أن الهدف الأساسى يجب أن يكون حفظ دماء كل المصريين لكى تتوقف الأمهات عن البكاء وتُشفى كل الصدور بحق، ولو بعد حين.