أكاديمية الشرطة تناقش «دور الجهاز الحكومى فى مواجهة مخططات إسقاط الدول»    أسعار الخضروات اليوم السبت 25-5-2024 في الدقهلية    أون تايم سبورت تعلن عن نقل مباراة الأهلي والترجي التونسي عبر التردد الأرضي    عدد أيام إجازة عيد الأضحى 1445ه في المملكة العربية السعودية    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : نحتاج رجال يفهمون « لاتزرموه» 000!؟    أبرزها «منتدى لندن».. حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي في أسبوع    انتهاء حصاد 4350 ألف فدان قمح بالشرقية    «البرلمان العربي»: مصر حريصة على دعم دول الجوار والحفاظ على أمنهم القومي    كارثة إنسانية.. مخاوف من توقف محطة تحلية المياه عن العمل في غزة    طائرات هليكوبتر و600 رجل شرطة .. للقبض على المطلوب رقم واحد فى فرنسا    باحث استراتيجي: حكم محكمة العدل الدولية دليل إدانة لجرائم إسرائيل    تنفيذ 4 دورات تدريبية يستفيد منها 122 موظفًا بالمحليات في سقارة    عليكم الاعتذار له| شريف إكرامي يهاجم رابطة النقاد بسبب محمد الشناوي    انطلاق ماراثون امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني بجامعة المنيا    حملات مكثفة على المخابز السياحية.. ضبط 11 طن دقيق مدعم    التحفظ على 14 طن أقطان رديئة داخل محلجين بالقليوبية    إصابة 25 شخصا في انقلاب سيارة ربع نقل في بني سويف    تأجيل محاكمة المتهم بتزوير محررات رسمية بقصر النيل    بعد فوزه بجائزة من "كان السينمائي".. مخرج "رفعت عيني للسما": "أتمنى الناس تشوفه في السينما والتليفزيون"    زاهي حواس يفوز بجائزة رجل العام من اتحاد الكتاب الصحفيين الإسبان    أحمد العوضي يتصدر ترند «إكس» ويحسم موقفه من ياسمين عبدالعزيز .. ماذا قال؟    محمد الصاوي يروي تفاصيل آخر 30 دقيقة في حياة علاء ولي الدين    "عقبال ويزو".. كيف علق الجمهور على شكل شيماء سيف بعد فقدها 50 كيلو من وزنها؟    جامعة عين شمس تبحث مع وفد «قوانغدونغ للدراسات» الصينية التعاون الأكاديمي والبحثي    وزير الخارجية يجري زيارة إلى بيت مصر بالمدينة الجامعية في باريس    وزيرة الهجرة: نتابع موقف المصريين في حادث غرق مركب باليونان    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. وأمين الفتوى ينصح    قافلة طبية لذوي الاحتياجات الخاصة بشمال سيناء    "صحة النواب" تتفقد المنشآت الصحية بجنوب سيناء    داعية: الصلاة النارية تزيد البركة والرزق    هل من حق الشاب منع خطيبته من الذهاب للكوافير يوم الزفاف؟ أمين الفتوى يرد    حبس سفاح التجمع لاتهامه بقتل 3 سيدات ورمي جثثهم على الطريق الصحراوي    «أكاديمية الشرطة» تنظم ورشة تدريبية عن «الدور الحكومي في مواجهة مخططات إسقاط الدولة»    منافسة قوية بين الأهلي والترجي لتعزيز رقم تاريخي.. «غير اللقب»    وزير الري: مشروع الممر الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط يخدم الدول الإفريقية    المفتي: لا يجب إثارة البلبلة في أمورٍ دينيةٍ ثبتت صحتها بالقرآن والسنة والإجماع    الصحة: إصدار 290 ألف قرار علاج على نفقة الدولة بتكلفة تجاوزت 1.7 مليار جنيه    لأول مرة.. وزير المالية: إطلاق مشروع تطوير وميكنة منظومة الضرائب العقارية    وفد لجنة الإدارة المحلية بالنواب يتوجه فى زيارة ميدانية لمحافظة البحر الأحمر    وزير الدفاع الأمريكي يستأنف عمله بعد خضوعه لإجراء طبي    "المقاومة الإسلامية بالعراق" تعلن قصف "هدف حيوي" بإيلات    "كولر بيحب الجمهور".. مدرب المنتخب السابق يكشف أسلوب لعب الترجي أمام الأهلي    إنبي يكشف حقيقة انتقال أمين أوفا للزمالك    برنامج تدريبى حول إدارة تكنولوجيا المعلومات بمستشفى المقطم    حبس سائق دهس شخصين في النزهة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 25 مايو 2024    الصين تعلن انتهاء مناوراتها العسكرية حول تايوان    صباحك أوروبي.. عهد جديد لصلاح.. صفقات "فليك" لبرشلونة.. وغموض موقف مبابي    نصائح الدكتور شريف مختار للوقاية من أمراض القلب في مصر    Genesis Neolun| الكهربائية الفاخرة.. مفهوم يعبر عن الرفاهية    ليست الفضيحة الأولى.. «الشاباك» الإسرائيلي أخطأ مرتين في نشر صورة إعلامي مصري    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    إطلاق مئات الآلاف من البعوض المعدل وراثيا في الهواء    حظك اليوم| برج القوس 25 مايو.. تأثير في الحياة العاطفية والاجتماعية    استعلم الآن.. رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2024 الترم الثاني بالاسم والرقم القومي    المدارس المصرية اليابانية تعلن بدء التواصل مع أولياء الأمور لتحديد موعد المقابلات الشخصية    مواعيد مباريات اليوم السبت والقنوات الناقلة، أبرزها مواجهة الأهلي والترجي في النهائي الإفريقي    عمرو أديب عن نهائي دوري أبطال إفريقيا: عاوزين الأهلي يكمل دستة الجاتوه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمار على حسن يكتب: سلفى «الحلقة السادسة عشرة»
نشر في التحرير يوم 21 - 03 - 2014

يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «سلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من روايته «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى. ومؤلف «سلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية». لم يكن «متولى» من هذه الفئة الأخيرة، بل كان يقبل على «الشيخ حسن» وينصت إليه. ورغم معرفته بماضيه السيئ فإنه غفر له، أو تناسى كل شىء ممقوت عنه، وجلس يسامره ليالى طويلة. وحتى رجال «جماعة التبليغ والدعوة» الذين هرب منهم سليم السويركى، صاحبهم متولى وهم يطرقون أبواب الناس، ليأخذوهم من أيديهم إلى المسجد. كان يمشى خلفهم فى امتنان، وكأنه فى حراسة خاصة لهم، وحين غادروا قريتنا استوحشهم وقال للناس: لو بيدى لتركت البندقية وذهبت معهم فى سبيل الله.
حين عادوا بعد واقعة السرقة، ذهبوا إليه، طرقوا بابه ففتح لهم بعيون باردة، ولصق يديه جانبى فخذيه، فعادت أياديهم الممدودة إليهم حسيرة. أعطوه ظهورهم، وسألوا الناس فى المسجد عنه، فقيل لهم ما جرى له. عذّروه، وطرقوا بابه مرة أخرى كى يفهموه أنهم مختلفون مع من يرفعون السلاح، وأنهم لا يفعلون شيئا سوى سكب الكلام فى آذان الناس لعلهم يهتدون. لكن «متولى» لم يسمح لكلامهم أن يعبر أذنيه إلى عقله أو قلبه، كان قد أغلق بينه وبين كل صاحب لحية بابا سميكًا، وكان يقول للناس: أبوابهم مفتوحة على بعضها. ويعود إلى حكاية «حسن» ليتخذ منها دليلًا على ما يقول: ألم يبدأ ب«قال الله وقال الرسول» تصاحبهما ابتسامة رائقة، ثم تجهّم وكشف عن وجه آخر قبل أن يأخذوه ليطلق حمم النار فى الجبال البعيدة. هل بوسعك، يا ولدى، أن تدرك أن «متولى» لم يفكر أبدًا فى الثأر. ادخر همومه داخله، ولم يجعل الكراهية تفتح أمامه أى مسرب نحو الدم. كان يقول إنه مات ليلتها، وأن من سرقوه اغتالوه، لكنه كان يتبع هذا برفع يديه إلى السماء، ويعلو صوته: شكوتهم إلى من لا يغفل ولا ينام. كنت أسمع كلامه فأخبئ عنه حكايتك، لكنه عرفها، فلا شىء يبقى سرًّا فى قريتنا الصغيرة، حتى لو دسسته فى جوف نفسك العميق. ولما حكيت له دلنى على «ذكرى» الذى كان ينعته دومًا ب«الملعون»، وقال إنه يمكن أن يكون على صلة بأحد الذين رافقوك هناك فوق الصخر وتحت سماء تمطر دمًا. الغريب أننى وجدته يتذكر ما قالته الشيخة «زينب» فى الزمن القديم، يستعيده ويخبرنى أنه كان يسمع بعض كلامها لجدتى وهو قادم ينادينى لنضفر سويًّا حبالًا من ضوء القمر فى ليالى الصيف البعيدة. ف«متولى» كان رفيق الطفولة، أنا أخذتنى همتى إلى الجامعة، وهو أخذه الكسل إلى أن يصير خفيرًا نظاميا، يفك الخط، ويوقع اسمه فى دفتر السلاح، أمام بندقية يتسلمها عهدة مسافة سواد الليل. معى فقط، يا ولدى، كان يبوح بكل شىء، وكنت أحكى له عنك وكلامى يذوب فى دموعى، فيمد طرف كُم جلبابه الواسع ويمسحها. العتبة التاسعة عشرة فى ظهر بيت «متولى» قطعة أرض فارغة، شبه مستديرة، تبدو كميدان عميق، تكنس له الريح أوراق الشجر، وسعف النخيل، وريش الطيور، ونتف القطن، التى تتسرب من ثقوب صغيرة فى الأجولة الضخمة، حين تتراص هنا فى مواسم الجنى. فى منتصف هذه «الفَسحَة»، يا ولدى، يوجد بيت «مطيع عبد السميع»، الذى هُدم وبُنى ثلاث مرات فى حياة أبيك. كان فى البداية من الطوف المتراكم بعضه فوق بعض، ثم هدمه صاحبه حتى سواه بالأرض، وأقام مكانه بيتًا من الطوب اللبن، الذى استقرت فوقه قشرة من الطين الأملس، يعلوها طلاء أزرق كالبحر والسماء، راح يتقشر بمرور الأيام، فيظهر تحته الطين الرمادى الغامق، ويصنع لوحة مزركشة، لا تزال محفورة فى رأسى، منذ أن كنت أجىء لألعب هنا، مع «أسعد» و«صفوان» و«عطا الله» و«ذكرى» الذى كان يسبقنا جميعا ببضع سنوات. وكنا أحيانًا، أنا وأقرانى، نمد أيدينا لنقشر الحائط، أو نحفر عليه كلمات بالحطب المسنون، منها عبارة كتبها «صفوان» ذات يوم وكانت تقول: «مطيع أبو لمعة السريع»، إذ كنا جميعًا مغتاظين من قدرة «مطيع» على الكذب والمراوغة، ومع هذا كانت تجذبنا وتسلينا حكاياته، وتبهرنا ألاعيبه، وكان أحيانًا يقود العيال فى هجمات خاطفة على حدائق البرتقال، ويعودون وحجورهم مملوءة، ولم يكن ينافسه فى السرعة سوى «عاطف الزنط». وكان لعبنا ينقطع هلعًا حين نسمع نقرات بغل العمدة «حيدر» قادمًا يهز الأرض، ويثير عجيجًا، وتتطاير لخطواته أزهار «دقن الباشا»، وبقايا ريش الطيور، ونتف القطن الملتصقة بالجدران، أو التى تعوم فى أرجل الإوز والبط والديوك الرومى. وفى يوم هدم «عبد السميع» البيت، وضاعت العبارة، الذى لم يمحها «مطيع»، وتركها، ربما حُبًّا فى شخصية «أبو لمعة» الشهيرة، ورأينا عربات النقل قادمة مملوءة بالطوب الأحمر والأسمنت، وراحت تعلو الحوائط الصلبة فى وجوهنا، وبعد اكتمال البناء والطلاء، أعاد «صفوان» كتابة عبارته بالطباشير الأبيض. ارفع وجهك، يا ولدى، لا تزال بقايا العبارة موجودة، لكنها بهتت، فدقق النظر. لم يطمسها «مطيع» لا وهى محفورة على الطين، ولا وهى مكتوبة على الأسمنت، وسألته ذات مرة، بعد أن كبرنا: لماذا تركتها؟ فترقرقت الدموع فى عينيه، وقال: كلما رأيتها استعدت أيام البراءة التى لوثتها الأهواء والمطامع. كان مطيع يكبرنى بسنة واحدة، تزاملنا فى المرحلة الابتدائية، لأنه التحق بالمدرسة متأخرًا، ويبدو أنه اعتاد هذا التأخر، فرغم أنه صعد درجات التعليم الأساسى بانتظام ويسر، مستفيدًا من ذاكرة صلدة ولسان ذرب، فإنه تخلف فى المرحلة الجامعية كثيرًا عن دفعته فى كلية «دار العلوم»، ليقضى ثمانى سنوات كاملة حتى يحصل على «الليسانس». وكان يقول لأهل قريتنا إنه تخرج وتم تعيينه معيدًا بالكلية، ولم يكذبه أحد، لأن والده، الذى كانت أحواله المالية قد تردت بينما الكهولة تغزوه بلا رحمة، حكى للناس كثيرًا، والفخر يملؤه، عن المبلغ الذى يدسه ابنه فى يده آخر كل شهر. كنت أنا الوحيد، يا ولدى، الذى يعرف الحقيقة، وعاهدت «مطيع» على أن أصون سره ما حييت، ولم أخنه أبدًا، لكنه هو من كشف السر فى ما بعد، بل كان يفتخر بتباطئه فى التعليم الجامعى، ويقول للناس: الدعوة تستحق التضحية بكل ثمين فى دنيانا تلك. ربما تدور فى ذهنك أسئلة عجلى، يا ولدى، عن أمر «مطيع»، الذى يبدو أنه خارج البيت الآن، وتريد أن تعرف ما جرى له، ولماذا أتيت بك إلى عتبته؟ اصبر، سيأتيك كل شىء، ولا ترهقنى بنظراتك الحائرة. لا أسعى هنا إلى أن أغوص فى أيام «مطيع» البعيدة، بل سأبدأ معك مع النقطة التى تهمك، بعد أن أتيت على طرف من طفولته الغضة. والبداية كانت اليوم الأول من الحياة الجامعية، حيث التقطه الدكتور «راضى عبد الجبار» أحد الأعضاء القدامى فى «جماعة الإخوان المسلمين» وعضو هيئة التدريس بالكلية، ورأى فيه عنصرًا واعدًا، فهو قروى نابه، يتطلع بنهم إلى تلبية احتياجاته المادية سريعًا، وحريص على أن يرطب ضميره الملتهب من الشغف بالدنيا بالمواظبة على الصلاة فى مسجد الكلية. ولذا نشن عليه الإخوانى القديم واصطاده. اصطاده، يا ولدى، كما اصطادك أتباع شيخك، الذى كان يعظ من على كرسيه خارج الجامعة، ويرسل صبيانه ليأتوا إليه بزبائن جدد، وكنت أنت أحد هؤلاء الذين تم اقتيادهم إليه عن طيب خاطر منهم، فلف عليهم الرجل العجوز خيوطًا حريرية قاسية، غطسوا بمرور الوقت داخلها، ولم يستطيعوا منها فكاكًا. كنت تغيب طويلًا خارج البيت، وتعود فى الليل مجهدًا، تدخل غرفتك، وتغلق على نفسك الباب. أيامها ظننت أنك تعيش قصة حب فاشلة، جعلت الكآبة تقيم فى عينيك، ووجهك ينحرف بعيدًا عنى كلما أرادت عيناى أن تصافحه. وقلت أحيانًا، إنك ربما تتكتم على أنباء فشل دراسى مزمن، لكن حين طرقت بابك وجلست أمامك، أحدثك كما أحدثك الآن، اكتشفت أنهم اصطادوك، بهذه الكتب التى تراصت على مكتبك. التقطها واحدًا تلو الآخر، كما تتذكر، وصرخت فيك: يريدون أن يطعنونى بك. لم تفهم وقتها، فأبوك، المحامى الشهير فى قضايا الرأى، أتعب هؤلاء القادمين من قعر التاريخ، وفند كل دعاواهم المتهافتة فى أروقة المحاكم. شعراء وروائيون ومفكرون وفنانون، قصدهم أصحاب اللحى الطويلة بسوء، رموهم بتهم تتراوح بين التجديف بالدين إلى الارتداد عنه، فكان لسانى وقلمى حائط صد، فارتد المعتدون على أعقابهم خاسرين وخاسئين. ربما نشنوا عليك، واصطادوك، ليقولون لى: وصلنا إلى عقر دارك، ونضربك من حيث لا تحتسب. لم يكن أبو «مطيع» شهيرًا مثل أبيك، ويجر نجاحه عليه أعداء تلو أعداء، بل كان فلاحًا بسيطًا، ورث ثلاثة أفدنة عن أبيه، وبمرور الأيام لم تعد تعنى شيئًا، فتبدل الحال من ستر إلى فاقة، وانفتح الطريق أمام اصطياد «مطيع». ولم تستغرق عملية الاصطياد تلك إلا يومًا واحدًا، أخذه فيه الدكتور «راضى» إلى معسكر أقامته الجماعة فى «بلطيم»، عاد منه عضوًا بدرجة «محب»، وقاده تفانيه فى الإنصات إلى كل ما يقال له وتنفيذه حرفيا من دون تردد إلى أن يرتقى الدرجات فى زمن قياسى ليصبح عضوًا «عاملًا»، فصار من الموعودين برضاء «مكتب الإرشاد»، لتنفتح عليه بركات من الأرض. كانوا يسلمونه مبلغًا كبيرًا من المال، يوزعه على «المؤلَّفة جيوبهم» من الطلاب الفقراء الذين يقطنون المدينة الجامعية، لا سيما طلبة الطب والهندسة، لكنه يبدأ دوما بذوى القربى من طلاب «دار العلوم»، وهو يقول فى نفسه: منها تخرج إمامنا «حسن البنا» ومفكرنا «سيد قطب»، الذى ترك لنا ما نعود إليه كلما اشتد علينا الألم، وشعرنا بالهجران والخذلان. وما أود أن أقوله لك الآن، يا ولدى، وأنت واقف أمام بيت «مطيع» تمعن النظر فى الحروف الباهتة التى لا تزال راقدة فوق الجدار، أنه جاء إلىَّ، وعرض علىَّ أن أنضم إلى «الإخوان»، وسأنال ما أريد. زارنى فى كلية «الحقوق» ذات يوم، ووضع يده على كتفى، ورحنا نمشى فى هدوء وظل القبة النحاسية الضخمة يهدهد رأسينا، وعيوننا تمتلئ بصفوف النباتات الواقفة لتحرس الممشى الهادئ، وقال لى من دون مقدمات: نريدك معنا. معكم؟! فتنحنح وقال: نصرة الإسلام تحتاج إلى جهد كل المخلصين وأنت منهم. فابتسمت، وهززت رأسى صامتا فى عجب، ففى تلك الأيام بالضبط كنت أقرأ كتاب «معالم فى الطريق» وأناقشه مع أستاذى «منصور عبد الجليل»، وأنصت إليه وهو يعدد خطورة ما انطوى عليه، ويجذبنى، بمرور الوقت، نحو «اليسار» وهو يقول: كن مع ملح الأرض، فتحل فى رأسى كل بيوت الطمى ووجوه الفلاحين الضامرة، فأجد من أو ما يهتف فى أعماقى: هذا طريقك، فأمضى منشرح الصدر، فاتحا ذراعىَّ ليطوقا الدنيا بأسرها. ولهذا ظللت يومها، يا ولدى، أنصت إلى «مطيع» حتى انتهى من عرضه، فرفضته، رغم رقة حالى، فأبوك لم يقايض على شرفه، ولا على ما يعتقد أبدًا، وطالما ظن أنه يمتلك إرادة لا تغلب، حتى رأيتك فى هذه الليلة، تتجهم فى وجهى، وعينيك ذاهبتين إلى الكتب القديمة، فقلت فى نفسى: وصلوا إليك يا فهمى، لكنهم لم يقتصروا على أخذ روحك منى وأنت أمامى، بل خطفوا جسدك أيضا، وذهبوا بك إلى أقصى الأرض، وجعلونى ألجأ فى يوم من الأيام إلى «مطيع» بعد طول هجران. كان هو قد تخرج بعد أن أذن له التنظيم، وطلبوا منه قبول التعيين فى مدرسة «البرجاية- الإعدادية» على بعد سبعة كيلومترات من بلدنا، وقالوا له إن مصلحة الدعوة تتطلب هذا، فرضخ، وطوى أحلامه بين جناحيه، بعد أن رفرفت كثيرًا فى رحاب القاهرة الساحرة، التى حلم أن يكون من سكانها، ليقترب أكثر من «المرشد» الثالث للجماعة «عمر التلمسانى»، رغم أن جيب «مطيع كان مربوطا بخصوم المرشد داخل التنظيم، ولذا طالما وجد نفسه ممزقا بين ما يملأ البطن، وما يريح الضمير، وبمرور الوقت، ورحيل المرشد، صار مع من يملكون المال، وبيدهم الأمر والنهى. جئت إليه، يا ولدى، فى هذا البيت، وقفت أمام هذا الباب، وكان طلاؤه زاهيًا، وطرقته ثلاث مرات، فجاءنى صوت زوجة «مطيع»، وكانت إخوانية بنت قيادى فى الجماعة، فسألتها عنه، فردت فى اقتضاب: فى مشوار، وسيرجع بعد ساعتين. فقلت لها: سأرجع إليه حين يعود. وكنت أعرف أن مشاويره غالبًا تكون اجتماعات مع بعض قيادات محلية للجماعة ببندر «المنيا»، وقلت ربما هذه الصلة تساعده فى أن يساعدنى على معرفة أى شىء عنك، يا ولدى. أعطيت ظهرى للباب، وجال بصرى فى تلك الدائرة المنبعجة المحفورة فى رأسى، فانهمرت حكايات الزمن البعيد، التى ثرثرنا بها هنا، ونحن ننتقل من لعبة إلى أختها، وجاءنى صوتى ثغاءً رفيعًا حنونًا، هيج قلبى الموجوع، ففاضت عيناى، وتقاطر على تراب طالما تغبرت به أقدامنا فى أيام البراءة، قبل أن تقول الشيخة «زينب» ما قالته، وتبدأ الهموم تتسرب إلىَّ عن الآتى، الذى لم أكن أعرف شيئا عنه، وراحت أيامه تولد من رحم الغيب فى بطء قاتل. انتظرت، يا ولدى، حتى سقطت الشمس خلف بيت الشيخ «إسماعيل» والنخلات التى تتمايل من بعيد عند طرف الجسر، وجئت فوجدته ينتظرنى. أخذنى بين ذراعيه، وطبع قُبلتين على كتفىَّ، ونظر طويلًا فى عينىَّ، وكأنه يقرأ فيهما سبب زيارتى، بعد انقطاع طويل، ثم جلس، وأشار إلىَّ فجلست إلى جانبه وهو يقول: أتابع أخبارك، وأرى صورتك مبتسمًا على صفحات الجرائد، وإن كان كلامك لا يعجبنى فى كل الأحوال. فابتسمت، وقلت له: دع هذا الخلاف الآن، فأنا جئت إليك طالبًا العون. هز رأسه
مستغربًا: أمثلك أنت يحتاج إلىَّ أنا؟! مددت يدى وقبضت على كتفه فى لطف، وواصلت: طرقت كل الأبواب الكبرى، فلم أنته إلى شىء، لجأت إلى وزراء وسفراء وضباط أمن كبار لأجد لديهم ما يبل ريقى عن ابنى الغائب، لكنهم جميعًا لم يأتوا إلىَّ بأى خبر يقين. ورميت بصرى وكان الباب مواربًا، فبدت لى بعض أزهار متساقطة من شجرة «دقن الباشا» تتشاجر فى دوامة ريح طارئة، وقلت له: كنا نتشاجر أيام الطفولة ونتصالح فى ساعة واحدة، ثم اختلفنا أيام الجامعة، وذهب كل منا فى طريق، لكن ما بيننا يجعلنى أتوقع منك أن تصدقنى القول. اتسع وجهه بضحكة عريضة، متذكرًا لقبه القديم «أبو لمعة»، وقال: كانت تصرفات طفولية وانقضت، وأنا الآن واحد من رجال يحملون على أكتافهم هموم نشر الدين والانتصار لشرع الله. ورغم أن أكاذيب «مطيع» لم تنقطع، وتأتينى أخبارها بين حين وآخر، فقد ضربت عنها صفحًا، فلم يكن هذا موضوعى، ولم يكن من الممكن أن أجادله فى شىء نسيه من اعتياده عليه، أو أقنعه بالتخلى عنه بعد كل هذه السنين من وسع الخيال وذرابة اللسان. اقتربت منه على «الكنبة» العريضة، وقلت: أعرف أنك لن تدخر وسعًا فى تخفيف ألمى. أطرق صامتًا برهة، وهو يشعر بارتياح بان فى وجنتيه وعينيه، وقال: كلى آذان مصغية. واستفضت، يا ولدى، فى تقيؤ كل أحزانى أمامه، وأنا أقاوم انكسارى، فهذا الرجل كان آخر من كنت أنتظر أن أجلس أمامه يومًا وأنا أتوجع هكذا، لكن من أجلك هان كل شىء، وأغلى شىء، كبريائى. ولما انتهيت شعرت بوخزة ألم فى صدرى، فوضعت يدى عليه، لكن «مطيع» لم ينتبه، أو تغافل وتركنى لقدرى. كان غارقًا فى تفاصيل، لم أكن عاجزًا عن تكهنها، لكنه بالطبع لن يبوح بسهولة، فقد علمه «التنظيم السرى» أن يكف عن الثرثرة، بينما ترك الكذب والمراوغة يكبران داخله فى هدوء، وكبر معهما بعض طيبته الريفية، التى كانت تعلو أحيانًا فتطرد رائحتها الطيبة كثيرًا من العفن الذى أورثته إياه السياسة وألاعيبها، مثلما أورثتنى أنا المحاماة أيضا كثيرًا من المكر واللوع. عاد من شروده القصير، وقال: أنت تعلم أن من انضم إليهم ابنك أناس آخرون غيرنا. ورغم أن خبرتى الطويلة فى قضايا الرأى أمام مختلف المحاكم جعلت ما يستقر فى يقينى أنهم سواء، نهلوا من منبع واحد، وما بينهم من اختلافات هى فروق توقيت، وفروق تخطيط نحو التمدد والغلبة، فلم أجد بُدًّا من مسايرته، فلم آتِ إلى هنا، يا ولدى، لأحاججه، أو أستعيد طرفًا من جدلنا القديم فى الدين والسياسة. ابتلعت كلامه، وسألته فى هدوء: أليس بوسع قيادتكم أن تصل إلى قيادتهم؟ رد فى سرعة شديدة: ليس الأمر بهذه البساطة. وهنا وجدت نفسى أقول له، وأنا أدوس على الحروف، حتى لا يظهر غضبى: أنتم من صنعتم الجحر الذى انجذب إليه النمل من شتى أنحاء الأرض. فهز رأسه مستفهمًا، فواصلت: أقمتم معسكرات الإغاثة هناك على أرض باكستان، وساعدتم فى تجنيد الشباب ونقله إلى ضفاف المعارك، ومن بينهم ابنى، وجاء من بعدُ من أخذهم إلى قلبها. وتنحنحت، وبلعت ريقى، وأطلقتها فى وجهه: وكل هذا تحت رعاية ال«سى.آى.إيه». سرى فى وجهه غضب، لكنه سرعان ما كظمه، وقال: أنت قلتها بلسانك: إغاثة. هذه كانت مهمتنا لنجدة المسلمين، أما ابنك فقد حمل السلاح، وسكن الكهوف، وخاض فى النار والدم. تجاهل اتهامى، المعلوم للناس جميعا وجماعته تنكره، ووجدت نفسى أنجر معه إلى جدل جديد لم أسع إليه، فأغلقت هذا الباب، وعدت أسأله: أيمكن لأحد من الإغاثيين هناك أن يكون لديه خبر عن ولدى؟ حملق فى وجهى، ثم هز رأسه، وقال: سأفعل كل ما فى وسعى. كان يروغ منى، يا ولدى، وكنت أعرف وقتها أننى أطلقت فى رأسه، بطلبى هذا، سيلًا من الوساوس والهواجس وأسئلة لا نهاية لها. هو كان يعرف طرفًا ليس بالقليل عن حكايتك، لكنه بدا وهو جالس معى كأننى أملأ أذنيه باسم وكلمات وحكاية لم يسمع عنها من قبل. خرجت من عنده ليلتها غير نادم على شىء، فقد كنت بالأساس فى زيارة لأمى، التى هى جدتك، بعد أن غبت عنها عدة أشهر، وكانت قد أعيتنى الحيل فى الوصول إلى أى خبر عنك بعد أن طرقت أبواب الكبار. جئت إلى «مطيع» ومن قبله «ذكرى» وأنا أردد داخلى الحكمة التى تقول: «قد يضع الله سره فى أضعف خلقه»، فالكبار لم يفيدونى بشىء، وربما أجد الإفادة عند الصغار. ولا أدرى، يا ولدى، هل كنت فعلًا أطلب منهما مساعدتى؟ أم أبحث عن فرصة لأجىء على ذكرك مع أى أحد هنا، رغم أننى كنت أهرب إلى القرية من عينَى أمك، التى كانت تعذبنى نظراتها الساهمة الناضحة بأوجاع معتقة، رغم أنها تعرف الحقيقة، وتفهم أننى لم أرسلك إلى أفغانستان، وأنك غافلتنى وهربت إلى هناك، لكن ربما كانت مثلى مسكونة بوسواس يهمس فى أذنيها ليل نهار: قصدوا ابنك من أجل كسر أنف أبيه. ومع هذا كانت أحيانًا تحنو علىَّ، وتقول لتواسينى: قدر ولطف، هذا أخف كثيرًا مما فعلوه مع غيرك ممن يهاجمون تفكيرهم، اغتالوهم أو هددوهم بالقتل فانحبسوا فى بيوتهم. أما أنا فكنت أتمنى لو أنهم ابتعدوا عنك، وتركوك تمضى فى المسار الذى تمنيته لك، وأمطرونى أنا بوابل من الرصاص، فانتقلت فى ثانية واحدة إلى الراحة الأبدية، بدلا من القلق الذى كان يأكلنى وأنا راجع من بيت «مطيع» المغلق بابه أمام عينيك الآن، حتى تمنيت لو انشق تراب هذه الدائرة المنبعجة، وابتلعنى، ثم استوت الأرض فوق رأسى، وتشاجرت عندها أزهار «دقن الباشا» الخفيفة الوديعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.