البابا كيرلس الرابع بابا وبطريرك الأسكندرية واثيوبيا والكرازة المرقسية ال110، والذى وصفه كبار مؤرخى القرن التاسع عشر ب"المصلح" ونعته مؤرخو الأقباط ب " أبى الاصلاح " لأنه ترك بصمات لاتمحى من تاريخ الكنيسة والتعليم الكنسى ونهضة المرأة إلى جانب ذلك حرصه الشديد على تثقيف وتنمية المجتمع وعلى مصلحة وطنه فى المقام الأول، أنه رجل وطنى من الطراز الأول، فلهذا الرجل العظيم دين فى اعناقنا جميعاً ويجب أن تخلد ذكراه إلى الأبد، ككثيرين ممكن ذكرهم كتب التاريخ وأنشئت من اجلهم المتاحف ونحتت من اجلهم التماثيل. نشأته : ولد "البابا كيرلس الرابع" فى قرية "نجع أبو زرقالي"، "الصوامعة الشرقية" مركز "اخميم " محافظة " سوهاج " عام 1816 م ودعاه أبواه ب "داؤد" ك "جده لأبيه" وسجل أسمه فى دفاتر مواليد القرية "داؤد بن توماس بن بشوت بن داؤد",وأعتنى والده بتربيته وتعليمه وتعلم المزامير والتسبحة واللغة العربية والقبطية ومبادئ الحساب، وكان رياضياً فارساً محباً لركوب الخيل والجمال فى فترة شبابه ، ثم لاحظ عليه والديه تباعده التام عن الأختلاط بالعالم، وميله إلى العزلة مفضلاً الخلوة والوحدة والتأمل . كان "داؤد" قد بلغ الثانية والعشرون من عمره عندما ودع الأهل والأصدقاء غير مكترث بدموع والديه وتوسلاتهما ان يبقى معهما ولا يفارقهما، إلا انه كان يصلى من أجل سلامتهما ورضاهما عن اشتياقاته الروحية وعدم اعاقتهما له. فسافر إلى عزبة الدير فى "بوش"، وكان حينئذ رئيس الدير هو القمص أثناسيوس الأنطوانى القلوصنى فكشف له الشاب "داؤد" عن نواياه واشتياقه منذ صغره إلى الرهبانية. وبعد عدد من الاختبارات للشاب تيقن رئيس الدير من حديثه ورباطه جأشه لطريق الرهبنة ولم يجد شئ فيه من الموانع فأرسله بخطاب مع قافلة الجمال المتوجهة الى الجبل الشرقى إلى الدير ب "وادى عربة" وهو على مسيرة أربعة أيام من شاطئ النيل الشرقى، ففرح الرهبان بقدومه ونال نعمة فى أعينهم، وبعد أن استقر بينهم أياماً كتبوا له تزكية برسامته راهباً بالدير فتمت رسامته سنة 1838 م بنفس اسمه العلمانى وصار اسمه بعد الرهبنة "الراهب داؤد الأنطوانى الصومعى". ثم رسم رئيساً لدير الأنبا انطونيوس عام 1840م فى عمر 24 سنة بعد ان تنيح رئيسه،وتم تعينه قائماً بشئون البطريركية ( مطراناً عاماً للكرازة المرقسية فى عام 1853م,بعد ذلك سيم بطرياركاً عام 1854م . اعماله فى سطور : - أسس أول مدارس فى مصر للبنات من قبطيات ومسلمات . - أنشأ مدارس الأقباط الكبرى القومية لتعليم الأقباط والمسلمين مجاناً العلوم الحديثة واللغات العربية والانجليزية والفرنسية والايطالية والتركية والمصرية القديمة ( القبطية ) . - جلب لمصر من أوربا أول مطبعة بعد المطبعة الأميرية لنشر العلوم والمعارف والكتب الأدبية . - أنشأ المكتبات العامة بالأديرة والدار البطريركية والمدارس القبطية . - أصلح الأديرة والكنائس وشيد الكنيسة المرقسية الكبرى ( بالشارع المسمى بأسمها برمسيس ) . - نظم حياة الرهبان ونهض برجال الدين علمياً وروحياً . - قام برحلات موفقة إلى بلاد الأحباش والسودان والقدس وبعض أقطار افريقيا وآسيا ومديريات مصر لنشر السلام بين الحكام والشعب وبين الكنيسة والشعب . - زار الحبشة مرتين الأولى لفض مشاكل دينية والثانية لتسوية منازعات سياسية بين مصر واثيوبيا وهذا ما نود التحدث عنه بشئ من التفصيل لنظهر قدرته على حل المشاكل السياسية وكيفية الأقتداء به . الزيارة الأولى للحبشة : اختلف الأحباش فى بعض القضايا الاهوتية والطقسية مع مطرانهم الانبا كيرلس، الأمر الذى استدعى قيام البابا بطرس السابع بداية من عام 1941 بإيفاد اكثر من مطران تباعا إلا انهم لم يوفقوا ولم يصلو إلى حل.وأخيراً استدعى البابا القمص داؤد الصومعى رئيس عزبة "بوش" آنذاك وكلفة بالقيام بالمهمة، وبالفعل سافر القمص "داؤد" إلى الحبشة عام 1851م وأنجز المهمة ونجح فى رأب الصدع وتسوية الخلاف والاختلاف وعاد إلى مصر فى 17 يوليو 1852 بعد أن قضى هناك سنة وبضعة أشهر . الزيارة التانية إلى الحبشة : يؤكد المؤرخون انه عندما كثر تحرش القوات الأثيوبية بالجيش المصرى المرابط فى "هرر وزيلع" أوعز السلطان عبد المجيد إلى والى مصر محمد سعيد باشا بسفر البطريرك كيرلس إلى الحبشة ( اثيوبيا ) ليحل مع الأحباش مشكلة الحدود المصرية الأثيوبية ويعمل على إيجاد الصلح والسلام بين الدولتين المتجاورتين . وعلى الرغم من صعوبة المواصلات وقتئذ ووجود ملك عنيد مستبد بالحبشة مع كثرة مهام البطريرك فى القاهرة إلا أن وطنية البابا كيرلس دفعته إلى أن يتخطى كل هذه الحواجز حباً فى حقن الدماء وإيجاد تسوية عادلة ودائمة بين البلدين، فغادر القاهرة رغبة على طلب الوالى وحباً فى الصالح العام سنة 1856م ورافقه القمص ميخائيل النميرى واثنين من الأتراك، وبعد رحلة طويلة وصل البابا إلى الحبشة وخرج لاستقباله الامبراطور تيودورس الرهيب مع العسكر وعظماء الدولة وكان ذلك فى أواخر سبتمبر 1856 أى أن الرحلة استغرقت نحو 100 يوم . خرج الامبراطور ثيودورس كما اسلفنا من عاصمة بلاده متجهاً إلى الحدود لاستقبال ضيفه البطريرك المصرى بالحفاوة البالغة لا لأنه رئيسه الدينى فحسب بل ليجد فى هذه الزيارة فرصته ليوطد مركزه، لذا لم يكن البطريرك يفاتح الامبراطور فى المهمة التى جاء من أجلها وهى وضع حد لاعتداء الاثيوبين على الأملاك المصرية وتحديداً الحدود بصفة نهائية حتى أظهر الامبراطور إرتياحه وموافقته على الصلح وتوقيع مشروع اتفاق بذلك، بل وطلب خبراء مصريين لتصنيع الأسلحة لجيشه وعندما لاح فى الأفق نجاح مهمة البابا كيرلس الرابع ظهرت الدسائس البريطانية والفرنسية للوقيعة مرة ومرات بين مصر والحبشة، فمن ناحية تقدم القنصل الفرنسى "سباتييه" من جديد إلى سعيد باشا بإلا يعول كثيراً على وساطة البابا كيرلس ومن ناحية أخرى أوغر الانجليز صدر الباشا سعيد عليه قائلين لسعيد باشا ان البابا كيرلس القبطى وتيودورس ملك الحبشة اتفقا على غزو مصر ولذلك طلب خبراء أسلحة للحبشة من مصر ومن ناحية ثالثة أكدت الدسائس فى بلاط الملك الحبشى ان زيارة سعيد باشا إلى السودان(على حدود الحبشة) وتحرك قواته إليها ليست إلا تمهيد للغزو المصرى المرتقب فضلاً عما أشيع فى البلاك الملكى الحبشى ان البابا قد احضر من الهدايا برنساً مسموماً مزركشاً "بالطو" كهدية للامبراطور الحبشى ليموت بمجرد ان يرتديه وكانت كل هذه الافتراءات سبباً فى إهانة الامبراطور تيودورس للبابا كيرلس . لكن البابا العظيم الذى لايدافع عن نفسه بل كانت الدموع التى تنهمر على خديه فى صمت أبلغ من الكلام وكانت صلواته سراً كلهيب نار صارخة أمام الديان العادل، وخرج الأمبراطور ليقابل القوات المصرية الغازية فيما كان البابا يواصل الصلاة وتمكن البابا من أن يصل إلى والدة الامبراطور وكانت امرأة تقية ورعة تخاف الله وأفضى إليها البابا بحقيقة الأمر فتوسلت إلى ابنها الامبراطور(الملك) من أجل البابا كيرلس فسمح له الملك بعد فترة وجيزة ان يدافع عن نفسه فتمكن من إقناعه بجليل مقاصده وأما بخصوص البرنس المسموم فقد ارتداه البابا على جسده فلم يحدث له شئ وألبسوه لإنسان محكوم عليه بالإعدام فلبسه ثلاثة أيام على لحمه فلم يحدث له شئ وتأكد الملك بعد ذلك من كذب كل الوشايات وسمح للبابا بالكتابة إلى سعيد باشا فراسله البابا قائلاً ان نجاحه أوشك ان يتم ولكنه متوقف على رجوع القوات المصرية فوراً من حيث أتت والرجوع بها من على حدود الحبشة فرحل سعيد باشا بقواته فوراً إلى مصر . وسرعان ماكفر تيودورس عن سوع ظنه بالأعتداء الكامل لرئيسه الدينى البابا كيرلس الرابع مقبلاً يديه وقدميه رافعأً حجراً ثقيلاً فوق صدره علاوة الاعتذار والايتغفار ووقع الأتفاق وأرسل الهدايا إلى مصر مع وفد حبشى رافق البابا الذى استقبله سعيد باشا بكل الاجلال والتقدير والأحترام . وفاته : أكد المؤرخون المعاصرون ان الوالى محمد سعيد باشا دس السم فى الدواء لهذا البطريرك الوطنى العظيم لسبب نشاطه الزائد ونفوذه الممتد فأستشهد فى 30 يناير 1861م أى نحو 45 سنة فقط .