في الوقت الذي تتعالي فيه الأصوات بأن تقوم الكنيسة بدورها الوطني في نزع فتيل التوتر مع إثيوبيا.. خاصة في أزمة مياه النيل.. برزت أصوات كثيرة وعلي مستويات عدة ابتداء من قادة كبار في الكنيسة مرورا بعدد من المفكرين والنشطاء المسيحيين.. تقلل من أهمية هذا الدور وأنه لا يجب التعويل عليه وساقوا في ذلك حججا تبدو منطقية وعقلية في حسابات المطلق منها: * ان هذه المشكلات سياسية بالمقام الأول وتحتاج إلي قرارات واتفاقيات ومفاوضات وغير ذلك وهو ليس من مهام رجال الكنيسة.. هذا ما ذهب إليه البابا تواضروس صراحة في حواره مع التليفزيون المصري من النمسا.. وفي إشارة واضحة إلي أنه رفض السفر مع الرئيس إلي إثيوبيا ورشح له الأنبا بيمن أسقف نقادة مسئول ملف إثيوبيا في الكنيسة.. هذا علي الجانب الأرثوذكسي.. أما الأنجيليون فقد ظهر موقفهم فيما أكده الدكتور فريدي البياضي. عضو مجلس الشوري وممثل الكنيسة الإنجيلية بالمجلس. أن طلب الدولة وساطة الكنيسة القبطية للتدخل لدي الكنيسة الإثيوبية لحل أزمة مياه النيل بإثيوبيا. سيكون دون جدوي لأن الأزمة أكبر من الكنيسة المصرية.. أنها بمثابة أمن قومي إثيوبي. ولن تقف الكنيسة الإثيوبية ضد مصلحة بلادها من أجل مصر.. * ان الكنيسة القبطية ليس لها نفس الدور الماضي أو اليد الطولي في إثيوبيا لأن الأمور تغيرت فالحكم ليس امبراطورياً ولا يبالي بالأيدلوجية الروحية وباتت الكنيسة الإثيوبية إحدي مؤسسات الدولة الخاضعة للحكومة. ولم تعد الشريك الروحي في حكم إثيوبيا ناهيكم عن علاقة الكنيسة الإثيوبية بالكنيسة المصرية اخذت شكلا مختلفا عن السابق واصبح لإثيوبيا الآن بطريرك مستقل ومجمعاً مقدساً يدير شئون الكنيسة في ظل حكم لا يعير للدين اهتماما يذكر. وتحولت البنوة بين الكنيستين إلي اخوة والفرق شاسع بين الطاعة البنوية والعلاقة الاخوية. ويستنتج البعض من ذلك أن الكنيسة القبطية لم يعد في قدرتها التأثير علي الكنيسة الإثيوبية والزامها بالطاعة أولا لاستقلالها وارادتها ثانيا لاذعانها لحكم جمهوري له مشاربه الدنيوية ومقاصده التنموية واراداته الشعبية فضلا عن المطامع الأجنبية فصار الطريق شائكا والأمور معقدة والحلول ليست علي قدر البطاركة أو في متناول المجامع الكنسية. فالاوضاع في إثيوبيا تغيرت والنظام علماني والكنيسة لا تتدخل في القرارات. والحقيقة أن الدور الكنسي في نزع فتيل التوتر مع الحبشة هو إرث تاريخي معروف ومشهور وذلك نظرا للولاية المصرية علي الكنيسة الإثيوبية منذ القدم.. حيث بدأ التبشير المسيحي هناك مبكرا جدا.. يؤكد المؤرخون ان العلاقة بين الكنيستين المصرية والإثيوبية تعود إلي النصف الأول من القرن الرابع الميلادي حين قام بابا الإسكندرية أثناسيوس الرسولي بسيامة أول أسقف لإثيوبيا وهو الأنبا سلامه في عام 330م. ومنذ ذلك الحين جري التقليد أن يكون رأس الكنيسة الإثيوبية أسقفا مصريا يرسله بابا الإسكندرية وبذلك تعتبر كنيسة الإسكندرية الكنيسة الام لكنيسة إثيوبيا التي اصبحت بذلك جزءا من كرازة مار مرقس الرسول واستمرت كنيسة الإسكندرية في سيامه وارسال مطران كرسي إثيوبيا حتي عام 1959 حين توجت كنيسة الإسكندرية الأنبا باسيليوس كاول بطريرك إثيوبي للكنيسة الإثيوبية بعد مراحل من المفاوضات بين الكنيستين استمرت من عام 1941 إلي عام 1959م. وخلال تلك الفترة الطويلة من الزمن لعب أساقفة الأقباط دورا مهما في إثيوبيا في تنظيم الكنيسة ورعايتها وفي تشكيل تقاليد الكنيسة الاحتفالية والتعبدية. وقد اضفي هذا اهمية ونفوذا كبيراً للمطران القبطي مما جعله ضرورة من ضرورات الحكم ومصدرا من مصادر استقرار البلاد. تشير الروايات التاريخية إلي أن الوساطات القبطية بشأن أزمة المياة تعددت علي مر السنين وحققت نجاحا ملحوظا.. منها ما حدث في عهد المستنصر بالله الفاطمي حيث شحت مياه النيل وقلت في المجري المخصص للنهر العظيم وعم القحط نواحي مصر بسبب بناء الأحباش سدودا علي النيل في بلادهم منعت تدفق الماء علي مصر.. فبعث المستنصر بالبطريرك ميخائيل إلي الحبشة حمله بهدايا للنجاشي حاكم الحبش وتكلم البطريرك مع النجاشي فوافق علي فتح سد كان حائلا دون تدفق مياه النيل. وتحسنت العلاقات ما بين مصر والحبشة وجرت مياه النيل بالخير لكل المصريين وانتعشت البلاد وانتشر السلام بين ربوع مصر. وفي عام 1856 حدثت مناوشات بين الجيش المصري والجيش الإثيوبي وكانت السودان جزءا من مصر وقتها.. ولما زادت الأمور عن حدها ولاحت الحرب مع إثيوبيا في الأفق أوعز الباب العالي العثماني إلي خديو مصر سعيد باشا أن يوفد البابا كيرلس الرابع إلي إثيوبيا للتوسط وحل المشكلة ورغم خطورة الأمر وافق البابا كيرلس ومضي في رحلة استغرقت مائة يوم حتي وصل إلي مشارف إثيوبيا وكان السفر خطرا في تلك الأيام.. وكان إمبراطور إثيوبيا وقتها يسمي ثيودورس الرهيب لعنفه وصرامته ولما سمع بقدوم البابا كيرلس استقبله علي بعد ثلاثة أيام من قصره وقبل يديه ومشي خلفه وكان كريما جداً معه وكان طعام البابا مطبوخا من يد الملكة وتنقلات البابا هي تنقلات إمبراطور البلاد. وتكلم البابا مع الإمبراطور بخصوص ما يحدث في بلدة هرر وغيرها وقال له إن العلاقات بين مصر والحبشة قوية وقديمة واقتنع الملك وسحب قواته من علي حدود مناطق الخلاف.. ولكن كانت هناك مؤامرات تحاك في الظلام لافشال مهمة الوساطة.. واحدة في مصر والأخري في إثيوبيا.. في مصر قالوا للخديو إن كيرلس الرابع سيتحد مع إمبراطور الحبشة ويغزو مصر.. وفي إثيوبيا قالوا للإمبراطور إن كيرلس الرابع جاء لكي يجعلك تهدأ ويعطي فرصة لحاكم مصر أن يقتحم الحبشة ويحتله. وصدق الإمبراطور الوشاية خصوصا أن سعيد باشا كان قد حرك جيوشه نحو الجنوب ولذلك أمر ثيودورس الرهيب أن يتم حبس البابا كيرلس ولا يعود لمصر وأن يوضع في القيود الحديدية ولا يقابل أحدا وظل البابا كيرلس في الحبس حتي استطاع الاتصال بأم الإمبراطور وشرح لها الأمر وتوسطت له عند ابنها وأرسل البابا لخديو مصر يقول له إن المهمة كادت أن تنجح لولا تحركات الجنود. وتقابل البابا مع الإمبراطور الذي قال له إن أحدهم وشي إليه أن من ضمن هدايا البابا كيرلس ثوبا مسموما.. وهنا لبس البابا هذا الثوب ولم يحدث شيء وعرف الإمبراطور الحقيقة فبكي وجاء للبابا حافيا حاسر الرأس يطلب المغفرة.. وانتهت مهمة البابا كيرلس الرابع بنجاح ونزع فتيل الحرب بين مصر وإثيوبيا.. وعاد لمصر مكرما من الجميع. لابد من الإشارة هنا إلي أن الإمبراطور تيودور كان متعصبا جدا وقد استنكر أن يكون البابا مبعوثا للوالي المسلم.. وقد اعماه هذا عن ادراك حقيقة وكنه الطبيعة المصرية والتسامح الإسلامي ولعل هذا هو ما جعله يصدق الوشاية ويقع في فخ الغواية ويتجرأ ويحبس البطريرك ففضلا عن كونه رجل الدين فهو مبعوث ورسول سلام.. والأخلاق والاعراف تمنع اعتقال رسول السلام أو الوسيط في السلام.. كان البابا كيرلس السادس له علاقات شخصية بالإمبراطور هيلاسلاسي وكثيرا ما كان الرئيس جمال عبدالناصر يوظفها في خدمة المصالح المشتركة. وكثيرا كان الامبراطور يدعو البابا لافتتاح وتدشين الكنائس في إثيوبيا وكانت الدولة المصرية تؤازر هذا العمل وتشجعه. لماذا التأكيد علي هذا الإرث التاريخي والدور الكنسي الآن؟ لعدة اعتبارات مهمة الآن منها: * ظهور أصوات تدفع إلي التراخي وعدم التحرك بجدية ازاء قضية بالغة الخطورة بعد الثورة.. * ارتفاع أصوات تطالب بالربط بين تحرك الكنيسة وحل مشكلات وتلبية مطالب الأقباط في الداخل.. * استخدام القضية في توجيه ضربة للاسلاميين والمساهمة في ابعادهم عن الحكم.. واقراوا ان شئتم.. أرسل موريس صادق المحامي والناشط القبطي خطابا إلي أفيجدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل يطالبه بالتوسط لدي الأممالمتحدة لفرض الوصاية الدولية علي مصر بسبب ما أسماه الاضطهاد الذي يتعرض له الأقباط المصريون. وطلب صادق من ليبرمان المساومة علي حقوق أقباط مصر بحصتها في مياه النيل بعد أن تصاعدت الأزمة مع دول المنابع بتوقيعها اتفاقية منفردة دون دولتي المصب مصر والسودان. وبعد أن يعدد الأحداث والوقائع الطائفية.. ينهي صادق خطابه إلي ليبرمان الذي وصفه بالبطل مستعطفا أياه قائلا: إن الأقباط يعلمون شجاعتكم واحترامكم للقوانين الدولية ولذلك فإننا نناشدكم التدخل السريع لحماية أقباط مصر مما يحدث لهم من تمييز واضح والتوسط لدي الأممالمتحدة لوضع مصر تحت الوصاية الدولية. وتطرق موريس صادق إلي مشكلة مياه النيل القائمة مؤخرا بسبب الصراع القائم بين مصر والسودان ودول المنابع بعد رفضها توقيع الاتفاقية مع دولتي المصب وتوقيع الاتفاقية المنفردة دونهما. وعاد صادق ليعلن صراحة مساندته لإثيوبيا ضد "مصر" قائلا: لقد كانت إثيوبيا هي حامي حمي الأقباط وكانت تهدد حكام مصر العرب بقطع المياه عنهم مقابل الحفاظ علي حقوق الاقباط وأضاف صادق لقد وقفت إثيوبيا كثيرا بجانب الأقباط وساندتهم لذلك يجب علي جميع الأقباط الوقوف اليوم بجانبها. كما أن القساوسة الإثيوبيين قد تظاهروا مؤخرا بجوارنا في مظاهرة أمام البيت الأبيض.. للاحتجاج علي أحداث نجع حمادي لذلك أعلن موقفي بصراحة ووقوفي ومساندتي لإثيوبيا ودول المنابع ضد العرب. لاحظوا الاختيار ومضمون الرسالة ف ليبرمان الصهيوني المتطرف هو صاحب فكرة ضرب السد العالي.. وإسرائيل هي اللاعب والمحرك الرئيسي للفتنة في دول حوض النيل وتلعب دورا رئيسيا في سد النهضة الحالي.. افيقوا ايها السادة.. الدبلوماسية الناعمة لا تصدر قرارات ولكنها تمهد الأرض لاتخاذ القرار في الاتجاه المطلوب.. واعلموا جيدا أن الوطن يعلو ولا يعلي عليه..