· 40 راهبا حبشيا يعيشون في دير المحرق.. ومئات الأحباش يقصدونه للاحتفال بذكري مجيء السيد المسيح إلي مصر في الأول من يونيو من كل عام · قصة الامبراطورة التي حكمت إثيوبيا في القرن الثامن عشر الميلادي وجاءت إلي مصر لتأخذ حفنة من ترابها لتضعها في أساس كنيسة كانت تؤسسها في بلادها من أسيوط يبدأ حل أزمة مياه النيل في أواسط إفريقيا، وفي "أورشليم الثانية" في صعيد مصر تخرج ورقة رابحة يمكنها أن تدعم الجهود المصرية في معركتها الدبلوماسية ضد التغلغل الإسرائيلي في دول منابع النيل. هنا دير المحرق في مركز القوصية شمال مدينة أسيوط.. هنا عاش السيد المسيح وأمه السيدة مريم العذراء ستة أشهر.. وهنا المذبح الوحيد في العالم الذي دشنه بيديه، فاستحق أن يكون "أقدس مكان في العالم"، كما يطلق عليه الرهبان هناك. إلي هذا المكان يشد الأحباش الرحال، ينتقلون آلاف الكيلومترات لينالوا البركة، ثم يعودون إلي بلادهم يستقبلهم أهلهم بما يليق ب"حجاج" زاروا الأماكن المقدسة، ولا ينسوا أن يتذاكروا سيرة الملكة "منتواب" التي حكمت إثيوبيا في القرن الثامن عشر الميلادي، وجاءت إلي دير المحرق لتأخذ من ثراه حفنة من التراب تجعلها في أساس كنيسة كانت تؤسس لها في إحدي المدن الكبري في بلادها. لهذا المكان نفوذ روحي خاص علي الأحباش، كما أن للبابا شنودة مكانة خاصة لديهم، فقد كان "بابا" لهم حتي عامين مضيا، وهو الذي يقوم بترسيم بطريرك كنيسة الحبشة، والتي يطلقون عليها ابنة الكنيسة الأرثوذكسية، كما أن هناك نحو 40 راهبا من الحبشة يعيشون هنا في دير المحرق، وكل هذه أوراق رابحة يمكن للحكومة المصرية أن تستغلها في تقوية موقفها في أزمة مياه النيل وتحشد من خلالها دول الجنوب إلي جانبها. دير المحرق الذي يقع علي بعد 12 كم غرب مدينة القوصية التابعة لمحافظة أسيوط وعلي بعد حوالي 327 كم جنوبالقاهرة، يمكنك أن تذهب إليه بطريق القطار، فبعد أن تصل إلي محطة القوصية تأخذ مواصلة أخري إلي موقف دير المحرق، ستكون مواصلتك في الغالب عربة حنطور أو توك توك يخترق بك مدينة القوصية من أقصي شرقها إلي الدير في أقصي الغرب منها، ثم تأخذ سيارة ميكروباص أجرة تتجه بك جهة الغرب ماراً ببعض القري، حيث يمكنك أن تري منارات الدير مرتفعة من علي البعد، حتي تسير بك السيارة في ظلال أسوار عالية ترتفع إلي خمسة أمتار. إنها أسوار حدائق الفاكهة التابعة للدير. والتي تجد في نهايتها بوابة حديدية كبيرة جدا، تفتح في سور يتجاوز ارتفاعه 12 مترا، ويجلس أمامها رجال أمن وواحد من رهبان الدير يتغير يوميا حسب جدول خاص. مساحة الدير حوالي 28 فدانا، تحيط بها أسوار حجرية أقدمها يرجع إلي بدايات القرن العشرين الميلادي، أنشئت علي شكل أسوار أورشليم، وينقسم إلي ثلاثة أجزاء: أولها ساحة الاحتفالات، والتي تعرضت لحريق مروع في يونيو 1988، راح ضحيته 40 شخصا، مما جعل الدولة تقوم بتخطيطها من جديد، وأنشأت مبانٍ لاسقبال الزوار والرحلات والخدمات. ويحتوي هذا الجزء علي مكتب الأمن والحراسة وقاعات للفيديو لعرض الأفلام الدينية للزوار، وعيادة طبية وورش حدادة ولحام وفرفورجيه ونجارة، بالإضافة إلي ثلاث مضايف لاستقبال الزوار، تحتوي كل واحدة منها علي ما يقرب من 50 غرفة، ولكل مضيفة راهب مسئول عنها، ومجموعة من العمال من الشباب منهم من يعمل بأجر ومنهم من يخدم لنوال البركة. وعملهم قائم علي نظافة المكان وتجهيز وجبات الإفطار والغداء والعشاء لضيوف الدير. كما تحتوي كل مضيفة علي صالونين كبيرين مجهزين بجميع المستلزمات والمتطلبات اللازمة للإقامة، وملحق بهما صالات للطعام ودورات مياه نظيفة، ويقع خلف هذه الاستراحة الأولي التي شيدت في عام 1985 حديقة جميلة بنافورة يزرع فيها بعض النباتات العطرية والنادرة. ويمتد الجزء الثاني من الدير من البوابة الوسطي حتي بوابة الحوش، ويضم ثلاث مضايف أخري ومكتب النذورات ومكتبة لبيع الهدايا، بالإضافة إلي الكلية الإكليريكية ومعهد ديديموس وكنيسة العذراء الجديدة، والتي تقع في الجهة الشرقية من البوابة الوسطي وخلفها مدافن الرهبان، ومن الجهة الغربية هناك بوابة أخري كبيرة، تليها بوابة ثالثة هي بوابة المرور إلي الكنيسة الأثرية والحصن وقصر الضيافة، وهو مكان إقامة رئيس الدير وكبار الزوار من البطاركة والمطارنة والأساقفة. وفيه مكتبة للمخطوطات الثمينة ومخبز، وهناك أيضا مكتبة لاستعارة الكتب التي تحتوي علي مخطوطات خاصة بالدير ومجموعة من الكتب النادرة ولكنها خاصة بالرهبان فقط. والجزء الثالث عبارة عن أحواش الأغنام والمواشي ومناحل العسل. وهناك أيضا السلخانة ومصنع ألبان وبنزينة ومكان خاص لسيارات الدير، و صهريج للمياه العزبة، وماكينة توليد الكهرباء ومخزن للغلال. القمص باخوميوس المحرقي قال ل"صوت الأمة" إنه بعد اعتلاء البابا شنودة كرسي الكنيسة عام 1971م أرسل الأنبا أغاثون أسقف عام الكرازة في عام 1972م لإدارة الدير، وكانت نقلة حضارية في تاريخ الدير، حيث حرص علي تعميره رهبانياً وعلمياً وإدراياً وذاع صيت الدير منذ ذلك الحين. ويؤكد القمص باخوميوس أن كنيسة العذراء في دير المحرق "هي البيت المهجور الذي عاشت فيه العائلة المقدسة وبقي علي مساحته كما هو حتي القرن 19 وعندما تحول البيت في العصر المسيحي المبكر إلي كنيسة تم عمل التقاسيم والحواجز المناسبة لطقس الكنيسة، فتم عمل حضن الآب في شرقية الهيكل الذي يرمز لاشتياق الله إلي كنيسته وهي تنتظر مجيئه، كما أنشئت حجرتان علي جانبي الهيكل. يتضح فيهما البساطة البعيدة عن أي علم أو فن معماري إلا أنهما متطبعتان بالطقس الكنسي الأصيل العريق في القدم. فقد استخدمت الحجرة اليسري لملابس الكهنة، وهي لذلك بدون باب يفتح علي صحن الكنيسة. والحجرة اليمني فهي لخدمة الشمامسة وبها حفرة في الأرض أسفل الحائط الشرقي مباشرة لتفريغ الشورية بعد انتهاء الصلاة. وحينما أراد عامل البناء القبطي تحويل البيت إلي كنيسة في ذلك الزمان وبناء الأعمدة الأربعة التي تحيط بالمذبح رمزا للإنجيليين الأربعة طبقا للنظام الكنسي فلضيق المساحة، ولأسلوبه الريفي غير المتكلف شكّلها علي الحائط الأيمن والأيسر للهيكل وعمل لها تيجاناً علي شكل بصلة. ويضيف باخوميوس: أهم ما في الهيكل المذبح الحجري، فالمذابح الحجرية عموماً معروفة لدي علماء الآثار بأنها استخدمت منذ عصر مبكر جداً. والتقليد أيضا يؤكد علي قدم هذا المذبح حيث إنه هو الحجر الذي جلس عليه السيد المسيح وهو طفل. ويفسر القمص باخوميوس لماذا لا يتم تغسيل الرهبان، بسرده قصة عن ابنة الملك زينو، وكانت قديسة هربت من القصر الامبراطوري متخفية في زي رجل وعرفت باسم "إيلاري"، وعاشت علي أنها راهب رجل، ولما مرضت أختها أحضروا القديس إيلاري الي أبيها وأختها حتي تصلي من أجلها، وبعد شفاء الأخت قالت لأبيها أنها تتعجب من شأن هذا الراهب لأنه كان يبكي ويقبلها بحنو غريب، فأحضروا القديسة المتخفية في زي رجل إلي الملك وسألها عن السبب، وهو لا يعرف أنها ابنته، فوقفت أمامه في زي رجل راهب، ثم طلبت منه أن يعطيها الأمان فأعطي الملك وعده بهذا، فأعلن الراهب إيلاري عن شخصيته الحقيقية وقال له: "أنا ابنتك وطلبي أن تعطي أمراً بعدم تغسيلي بعد وفاتي إلا في حضورك". وبالفعل بعد وفاتها أرسلوا للملك لحضور تغسيل جثمان الراهب إيلاري وفوجئ الجميع بأنها بنت، ومن وقتها أصبح العرف ألا يتم تغسيل أجساد الرهبان بعد وفاتهم. وعن تعلق الأحباش بدير المحرق، وحبهم له، يقول باخوميوس: الأحباش عشقوا الأماكن التي عاش فيها السيد المسيح في فلسطين وفي مصر. وانجذب الكثير منهم إلي ترك بلادهم والتوجه إلي هذه الأماكن ليحيوا فيها حياة النسك والزهد، وتمتلئ مخطوطاتهم المحفوظة في أديرتهم بالمعجزات العديدة التي صنعتها السيدة العذراء في دير المحرق.