الدير مفتوح دائما أمام المسلمين والمسيحيين أهم ما يميز دير المحرق بأسيوط.. أنك تستطيع أن تزوره في كل وقت.. وتحت أي ظروف.. لذلك فليس غريباً أن يستقبل الدير ملايين الزوار من المسلمين قبل المسيحيين طوال أيام العام وخاصة في فترة الأعياد.. فهو يماثل في قيمته الروحية والدينية عند المسيحيين في مصر والعالم كنيسة القيامة بالقدس الشريف.. لذلك كانت هذه الزيارة الخاصة للدير. انطلقنا صباحا بسيارة عم فيكتور الذي تطوع لاصطحابنا للدير حيث قطعنا المسافة من أسيوط للدير في حوالي ساعة، لكن الزيارة امتدت داخله لساعات. عندما فتحت البوابة الحديدية الضخمة المنقوش عليها أشكال متعددة للصليب، فاحت رائحة البخور القوية التي تمتلئ بها ساحة الدير ووصلت إلي أسماعنا الترانيم التي لا تنقطع ليلا ونهارا، وهو ما أضفي علي المكان قدسية خاصة وشعرنا خلالها أننا نقف فوق بقعة مطهرة ومباركة تحتضنها أرض مصر، بقعة سكنتها العائلة المقدسة «السيدة العذراء مريم والسيد المسيح» مما جعل حالة من الصفاء تغشي شعورنا وتضمنا في رحابها. خلف البوابة الرئيسية للدير كانت هناك ساحة فضاء كبيرة بها مكتبة ضخمة تضم الآلاف من الكتب الدينية وكتب التراث القبطي وبجانب المكتبة كان هناك متجر يضم المنتجات والتي ينتجها الدير من عسل النحل ومنتجات الألبان وغيرها، وإلي جانب هذا كانت هناك عدة كافتيريات صغيرة تقدم المشروبات للزوار. يعود تاريخ الدير إلي المغارة التي اختارتها العناية الإلهية لتكون مأوي آمنا للعائلة المقدسة الهاربة من وجه الملك هيرودوس، حيث استراحت فيها العائلة المقدسة «السيدة العذراء، السيد المسيح، سالومي ابنة خالة السيدة العذراء» وقد مكثت العائلة المقدسة في هذا المكان القفر ستة أشهر وعشرة أيام، إلي أن ظهر ملاك الرب ليوسف النجار في الحلم قائلا «قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلي أرض إسرائيل فقد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي»، وقد أصبح كنيسة في القرن الأول الميلادي، حين جاءت مجموعة من البشر وقاموا ببناء عدة بيوت حتي جاءهم الأنبا «باخوميوس» ثم بدأوا في تأسيس الدير، وبدأت حياة الرهبنة فيه، حتي وصل عدد الرهبان في القرن الرابع الميلادي 300 راهب، ويسمي دير العذراء، لأن السيدة العذراء سكنت فيه، والأرجح في تسمية الدير بالمحرق أن المنطقة المحيطة بالدير كانت ممتلئة بنبات الحلفا وغيرها من الحشائش الضارة، وكان يتم حرقها، فسميت بالمنطقة المحترقة أو المحروقة، ومع الوقت استقر لقب الدير بالمحرق. • أورشليم الثانية ويقول القمص متي المحرقي: يعتبر الدير المحرق بجبل قسقام هو أورشليم الثانية لأن به الكنيسة الأثرية وهو المكان الذي سكنته العائلة المقدسة، وهو لا يقل شأنا أو مكانة عن الأماكن التي عاش فيها السيد المسيح في أرض فلسطين. والحياة داخل الدير تقوم علي العبادة والصلاة وفي أيام العيد تبدأ جميع الكنائس بالصلوات من الثالثة عصرا حتي الثالثة ليلا، ثم يقوم الأنبا ساويرس رئيس الدير بتبادل الزيارات، وفي باقي أيام العيد يجتمع الرهبان في الصلوات والتسابيح الليلية حتي السادسة صباحا. ويضيف القمص متي المحرقي: الدير له أراضي وقف تتم زراعة قطعة منها واسمها «كاروت» وفيها ما يقرب من 400 فدان يزرعها الدير بالقمح والفول والذرة والبصل وباقي الأرض مساحتها تقرب من 2000 فدان يتم تأجيرها للناس، هذا إلي جانب ورشة نجارة وأخري للحدادة لصنع احتياجات الدير، بالإضافة إلي معمل ألبان ومنحل لصنع عسل النحل، ومزرعتان للحيوانات، خاصة بالدير إحداهما مزرعة للأبقار، وأخري للخرفان والماعز، هذا إلي جانب سوبر ماركت، وعدة معارض خارجية أمام الدير وهي مشاريع خاصة بالدير لبيع العسل والألبان والمنتجات الأخري. • قصر الضيافة بدأت جولتنا داخل الدير بجولة في قصر الضيافة وقد بني عام 1910 وتم بناؤه علي شكل صليب، ويوجد أمام مدخل القصر البوابة الرئيسية وهي بوابة أثرية ولم تدخله سيدة منذ نشأته حتي الآن، وهذا القصر يقيم فيه رئيس الدير وكبار الزوار من البطاركة والمطارنة والأساقفة ويقيم فيه الآن نيافة الأنبا ساويرس أسقف ورئيس الدير منذ عام 1977، ويتبع له مبني لاستضافة الكهنة الجدد الذين يقضون أربعين يوما بعد سيامتهم لاستلام طقس الذبيحة المقدسة والقداس الإلهي، وبعد القصر توجد منطقة القلايات التي أنشأها الأنبا باخوميوس بعد أن كان الرهبان متفرقين في الجبال، وكل راهب من رهبان الدير له قلاية خاصة به، وتوجد بالقلايات غرف صغيرة للصلاة، وتوجد أربعة مضايف أخري لاستقبال الناس. • الحصن الأثري وتم بناء الحصن لحماية الرهبان من غارات البربر، وكان الرهبان يلجأون إليه وقت شعورهم بالخطر من هجمات البربر علي الدير بعد العبور علي قنطرة خشب يتم رفعها إلي داخل الحصن، كما يوجد به سرداب للهروب وقت الخطر، وهو الحصن الوحيد الذي لم يستخدم منذ بنائه في القرن السادس أو السابع الميلادي. ويقول الراهب أساني المحرقي خادم كنيسة الملاك ميخائيل بالحصن الأثري بالدير المحرق، أن الرب وعد هذا المكان بثلاثة أشياء أساسية هي أن الذبيحة لن تنقطع عنه لليوم الأخير حتي لو حدثت مجاعات سيبقي فيه الخبز، كما أن هذا المكان لم يتعرض لأي اضطهاد حسب وعد الرب، ولم يحدث أي اعتداء من البربر عليه، وأن من يطلب شيئا يتحقق بسبب شفاعة السيدة العذراء. • الملاك الحارس الحصن مبني مربع الشكل طوله تسعة أمتار، وارتفاعه ستة عشر مترا، مكون من ثلاثة طوابق ويتم الصعود علي برج حجري لدخول الحصن بواسطة قنطرة متحركة تدخلنا إلي الطابق الثاني ومنه يتم الدخول إلي بقية طوابق الحصن، ثم يتم رفع القنطرة عن طريق بكرة كبيرة، حتي يتم فصل المبنيين عن بعضهما، يوجد أمام الباب تمثال لأحد الرهبان للتعبير عما كان يحدث في المكان، ويوجد بهذا الطابق ثلاث غرف، واحدة كانت تستخدم للصلاة أو لأي عمل يدوي، ونري فيها تمثالين أحدهما لراهب يصلي والآخر لراهب يتناول الطعام، والغرفة الثانية للسكن، والثالثة بها سلم للنزول إلي الطابق الأول وبه أربع غرف، غرفتان منها عبارة عن مخازن والغرفة الثالثة توجد بها بئر لسحب المياه وقت الخطر، والغرفة الرابعة مخزن للترمس. أما الطابق الثالث بالحصن ففيه كنيسة الملاك ميخائيل، وهو الملاك الحارس، وداخل كنيسة الحصن نجد عمودين تم العثور عليهما داخل معبد وثني، وحجاب يرجع إلي القرن الثالث عشر، ومنجلية أثرية من الخشب ترجع إلي القرن الثاني عشر الميلادي وبها أيضا بيضتان من بيض النعام. ويقول الراهب أساني المحرقي إن بيضة النعامة في أي كنيسة أثرية لها أكثر من رمز الأول أن النعامة عيناها دائما علي بيضتها، مما يعني أن السيد المسيح عيناه علينا دائما، وأن البيضة يخرج منها كائن حي، والمسيح حي، والرمز الثالث أن النعامة عيناها علي البيضة ولم تحافظ عليها وهذا يدعونا إلي أن نبقي عيوننا يقظة لوصايا الرب حتي تستمر الحياة. وأضاف أساني: يوجد داخل الهيكل نفق أو مخبأ يخرج منه الراهب إلي الغرفة المجاورة، وما بين سطح الكنيسة وسقف الحصن توجد غرفتان عبارة عن مقبرة للرهبان، بحيث لو مات أحد الرهبان أثناء فترة الاضطهاد يتم دفنه فيها. • كنيسة السيدة العذراء الأثرية وبجوار الحصن توجد كنيسة السيدة العذراء الأثرية وتعرف بالمغارة أو الغرفة، ويأتي إليها الزوار من كل أنحاء العالم وهي أقدم كنيسة في التاريخ حيث أنشئت عام 80م، وهي البيت المهجور الذي عاشت فيه العائلة المقدسة، وتبدأ بدهليز كبير به بعض الأيقونات، وخريطة توضح طريق العائلة المقدسة، منذ خروجها من فلسطين حتي وصلوا إلي البيت المهجور، مكان الدير المحرق، ويوجد بها معموديتان للأطفال، كما يوجد بها مذبح حجري واحد، وتشير الأقوال إلي قدم هذا المذبح، حيث إنه الحجر الذي جلس عليه السيد المسيح، وتزين الكنيسة ببيض النعام الذي يرمز لعناية الرب، ويلاحظ أن أبواب الهيكل الداخلية والخارجية وأبواب الكنيسة نفسها منخفضة الارتفاع، لكي يشعر الداخل لبيت الرب بالخشوع والاحترام، وتوجد بها عدة أيقونات للسيدة العذراء ولعماد السيد المسيح، وبعض القديسين الأطهار، وبعدها نجد كنيسة مارجرجس والتي أنشئت عام 1880، وبنيت بالرخام الإيطالي، وبها العديد من الأيقونات الرخامية للعديد من القديسين، ويوجد بها ثلاثة مذابح أحدها للسيدة العذراء، والآخر للقديس يوحنا المعمدان، والثالث للشهيد مارجرجس، وبها ثلاث مقصورات اثنتان منها للقديسة السيدة العذراء، والمقصورة الثالثة بها رفات القديس ميخائيل البحري المتوفي في فبراير 1923، وقام نيافة الأنبا ساويرس بإخراج رفاته في عيد نياحته عام 1991. وأخيرا كنيسة السيدة العذراء الجديدة، والتي تأسست عام 1940، واستكمل بناؤها كاملة بمنارتها عام 1964 . • الكلية الإكليريكية ثم نجد بعد ذلك الكلية اللاهوتية لإعداد الدعاة ويوجد بها ثمانون طالبا، ويلتحق بها الطلاب بعد المرحلة الثانوية، ويُدرس بها الطالب لمدة أربع سنوات، وبعدها يحصل علي بكالوريوس في العلوم اللاهوتية والكنسية، ويبدأ الخريج قسيسا ويتولي العمل بكنيسة خارج الدير، وبجوار الكلية توجد مساكن لطلبة الرهبنة، ثم مخازن الغلال ومعامل الألبان. • «دير درنكة» وبعد رحلة امتدت لما يزيد علي خمس ساعات في دير المحرق انتقلنا إلي دير درنكة بجبل أسيوط، وهو مشهور بكنيسة المغارة التي انتقلت إليها العائلة المقدسة، وبالفعل وصلنا إلي الدير في آخر النهار فكانت زيارتنا إليه زيارة سريعة فلم نتمكن من لقاء رئيس الدير، لكن المعروف عن دير العذراء بجبل أسيوط أنه يقع بالجبل الغربي لمدينة أسيوط، ويأتي إليه الزائرون من الأجانب والمصريين علي مدار العام، وهو المكان الذي انتهت إليه مسيرة العائلة المقدسة ومنه بدأت رحلة العودة، وتوجد بالدير مجموعة من الكنائس أقدمها كنيسة المغارة، وبها بدأ الدير ثم تمت توسعته بعد ذلك، وبه كنيسة العذراء المنارة، والعذراء الأوربان، والعذراء الميدان، وعندما بدأت الحركة الرهبانية في القرن الرابع الميلادي قامت بهذه المنطقة أديرة كثيرة للرهبان وللراهبات، ومن أشهر الذين عاشوا به القديس «يوحنا الأسيوطي »، وله كنيسة بجوار الدير تحمل اسمه. ويقيم الدير الصلوات وسر العماد يوميا، ويقيم الدير احتفالاته الدينية سنويا ابتداءً من يوم 7 أغسطس حتي 21 أغسطس كل عام، ويأتي إليه زوار كثيرون قد يصلون إلي مائة ألف شخص كل عام. ------------------------------------------------------------------------ جبل قسقام - يقع الدير المحرق بسفح جبل قسقام علي بعد 12 كم غرب مدينة القوصية بمحافظة أسيوط. - قسقام اسم قديم من عصر الفراعنة يطلق علي كل المنطقة الصحراوية القائم فيها الدير، وهو يتكون من مقطعين قس يعني مدفن وقام يعني الحلفا، ومعناه الديني اللا نهاية إلي الأبد. - باخوميوس هو الذي أنشأ أديرة الصعيد كلها. - لا يخرج الرهبان من الدير إلا في أوقات معينة للعلاج أو لظروف عائلية كحالة وفاة أو عيادة مريض. - كان الرهبان يستخدمون الترمس وقت الغارات لأنه يغيب لفترة طويلة. - قامت ملكة الحبشة في القرن الثامن عشر بأخذ عينة من التراب الموجود بالدير ومزجته في مواد بناء كنيسة عظيمة باسم قسقام بإقليم جوندار بالحبشة. - وصل عدد الرهبان الأحباش في الدير المحرق 40 راهبا وكانت لهم كنيسة، خاصة في الدير إلي أن قل عددهم في القرن العشرين. - لا أحد يستطيع القفز من البرج إلي الحصن بسبب طول المسافة بينهما، وكل شبابيك الحصن مخروطية الشكل، ومن بالداخل يري من بالخارج دون العكس. ------------------------------------------------------------------------ أقدم الأديرة وخلال زيارتنا لدير المحرق قابلنا مجموعة من الفتيات والسيدات: ميريت جمال - 23 سنة - عبرت عن مدي ارتباطها بهذا الدير لأنه من أقدم الأديرة الموجودة، بالإضافة إلي أنه كان المخبأ الوحيد للرهبان من أيدي البربر، إنه يضم عدة كنائس لها مكانة خاصة لديها، وأضافت أنه ليس ديرًا للعبادة فقط، بل إنه يضم العديد من الأغراض التي يحتاجها كل قبطي، وأكد روماني - 18 سنة - طالب بكلية تجارة جامعة أسيوط أن دير المحرق له مكانة خاصة في قلوبنا، وهذه المكانة لا تتوقف عند الأقباط فقط بل المسلمين أيضا فالأجانب يأتون من كل مكان في العالم لزيارة هذا الدير، فمكانته وقيمته تماثل قيمة كنيسة القيامة بالقدس، وذلك لوجود الحصن الذي يمس مشاعر كل قبطي. أما السيدة ماريا إسحاق - 45 سنة - ربة منزل فقالت إنها دائمة المجيء لهذا الدير لأن التواجد فيه يجعل النفس صافية، فأنا وأسرتي نأتي في أعياد الميلاد المجيد للإقامة بالدير، بل كل قبطي يتمتع بالألحان والأشعار القبطية التي تعبر عما بداخله، ومن أهم هذه الطقوس أننا نقف في صفوف علي الجانبين وصورة العذراء مريم تمر وسطنا محمولة علي حامل من الخشب مرفوعة في الأمام .. أما في زيارتنا لدير درنكة فقابلنا الأستاذة إيريني إسحاق -30 سنة - التي قالت: إن هذا الدير نعتبره كأقباط جنتنا علي الأرض لأنه تتواجد فيه كنيسة المغارة أو كنيسة العذراء مريم، ونحن أطلقنا هذا الاسم لتواجد السيدة مريم في هذه المغارة لفترة.