تمهيد: - رفض قضاة مجلس الدولة مطالبات أعضاء هيئة النيابة الإدارية بإنشاء جهة قضاء تأديبي مستقلة في الدستور الجديد واعترضوا عليها، وكان رفض قضاة مجلس الدولة لهذه الفكرة مبنياً على عدة أسباب ومبررات، منها انه لا يوجد نظام قضائي في العالم يفصل المحكمة التأديبية عن الجهة التي تتولى الفصل في المنازعات الإدارية سواء كانت المحكمة الإدارية او مجلس الدولة بحسب الاحوال. ولا يزال قضاة مجلس الدولة مصممين على هذا القول. - غير أن رئيس نادي هيئة النيابة الإدارية خرج علينا في أحد البرامج التلفزيونية كثيفة المشاهدة ليرد على تساؤل المذيع النابِه ، بأنه لا توجد أنظمة مقارنة تطبق هذه الفكرة، ففاجأنا المستشار الفاضل بالقول بأنه توجد محكمة تأديبية في ألمانيا، بل ويوجد في ألمانيا هيئة للنيابة الإدارية. - ولا علم لي بوجود هيئة للنيابة الإدارية في ألمانيا، وإن كنت سأبحث في ذلك، ولكن ما أعلمه علم يقين أنه لا توجد محكمة تأديبية في ألمانيا تختص بنظر الدعاوى التأديبية كتلك الموجودة في مصر، فاسمح لي قارئي الكريم ان احكي لك الحكاية من بدايتها. السلطة القضائية في الجمهورية الألمانية: - تتمتع السلطة القضائية في ألمانيا بوضع نادر غير متكرر على مستوى العالم، وهذا راجع لتجربة تاريخية قاسية، مرت بها ألمانيا فجعلتها تخوض حربين عالميتين انتهت بها إلى تحولات سياسية واقتصادية كبرى، فأنتجت هذا الوضع الفريد. - وألمانيا بلد فيدرالي اتحادي، لها تاريخ عميق، تتكون من ولايات وحكومة مركزية فيدرالية وأخرى للولايات، وهذا انعكس أيضا على تركيبة السلطة القضائية فيها، فهناك محاكم محلية خاصة بكل ولاية، وهناك محاكم فيدرالية يشمل اختصاصها عموم الجمهورية الألمانية. أنواع المحاكم الاتحادية في الجمهورية الألمانية: - تضمن الدستور الألماني إنشاء نوعين من المحاكم، الأول إنشاؤها وجوبي، والثاني إنشاؤها جوازي - أولا: المحاكم وجوبية الإنشاء: 1- المحكمة الدستورية العليا: وأنشأت بموجب المادتين 93، 94من الدستور الألماني الصادر عام 1949، وتتمتع هذه المحكمة بصلاحيات واسعة جدا، وتعتبر هي حامية الديمقراطية من أي اعتداء يقع عليها. وتم إعطاء تفصيلات كثيرة لها في الدستور. 2- محاكم الاتحاد العليا المتخصصة: إلى جانب المحكمة الدستورية، أوجب الدستور الألماني في المادة 95 إنشاء مجموعة من محاكم الاتحاد العليا المتخصصة في مجال العدالة، والإدارة، والعمل ، والعدالة الاجتماعية. فأنشئت نفاذا لأحكام الدستور المحكمة الإدارية العليا Federal Administrative Court، والمحكمة المالية الاتحادية Federal Fiscal Court ، ومحكمة العمل الاتحادية Federal Labour Court ، والمحكمة الاتحادية للعدالة الاجتماعية Federal Social Court. وطبقا للفقرة الثالثة من المادة (95) المشار اليها، ينبغي من أجل المحافظة على توحيد المبادئ القضائية، تشكيل مجلس شيوخ مشترك لهذه المحاكم من خلال قانون اتحادي . - ثانيا: المحاكم جوازية الإنشاء: أجازت المادة (96) من الدستور الألماني إنشاء محاكم اتحادية أخرى في ثلاثة مجالات حددها الدستور على سبيل الحصر ، وهي: 1- المحاكم المتخصصة في شئون حماية الحقوق الملكية الفكرية. 2- المحاكم الاتحادية الجنائية العسكرية للقوات المسلحة. 3- المحاكم الاتحادية للبت في القضايا التأديبية والقضايا المتعلقة بشكاوى الموظفين العموميين. المحكمة التأديبية الاتحادية : ما يهمنا في هذا المقال هو التركيز على النوع الثالث، وهي المحاكم الاتحادية للشئون التأديبية للموظفين العمومين وتسمى (المحكمة التأديبية الاتحادية) Bundesdisziplinargericht ، وهي المحكمة التي يتمسك أعضاء هيئة النيابة الإدارية بوجودها في ألمانيا، حتى يدللوا على ان بعض النظم المقارنة تأخذ بفكرة القضاء التأديبي المستقل. وهذا امر يحتاج إلى توضيح. المحكمة التأديبية الاتحادية في ألمانيا ماضٍ زال .... وتجربة ثبت فشلها: - صدر الدستور الألماني عام 1949، وأنشأت المحكمة التأديبية الاتحادية عام 1967 بموجب قانون اتحادي، وكان مقرها مدينة فرانكفورت، وكانت تختص بمنازعات وشكاوى الموظفين العاملين في الحكومة الفيدرالية، في حين كانت المحاكم الإدارية في الولايات المحلية تختص بتأديب وشكاوى العامليين في تلك الولايات. - وبموجب برنامج الإصلاح القضائي المطبق في ألمانيا والذي اطلق عام 2001، للنظر في تبسيط الإجراءات المتبعة أمام المحاكم المتخصصة، تم إلغاء المحكمة التأديبية الاتحادية الفيدرالية بألمانيا تماما بالقانون الصادر في 1/1/2002 المسمى قانون التأديب الاتحاديFederal Disciplinary Act 2002 - ودعت لتبني هذا القانون الإصلاحي عدة أسباب منها: عدم فاعلية المحكمة التأديبية الاتحادية، نظرا لاختصاصها المحدود، وما تلاحظ من أن عدد القضايا المعروضة عليها لم يكن بالقدر الكافي الذي يتطلبه إفراد محكمة خاصة بها، لا سيما وأن الطبيعة الإدارية غالبة على مفردات المنازعة التأديبية، فضلا عن تعقد الإجراءات وتضاربها في بعض الأحيان، فالموظفون الفيدراليون تنظر طعونهم المحكمة التأديبية الاتحادية. في حين أن موظفي الولايات المحلية تنظر طعونهم المحاكم الإدارية المحلية هو ما قد ينتج عنه رؤى مختلفة في موضوعات واحدة. - فصدر القانون المشار إليه في بداية عام 2002، وأسند الاختصاص بنظر المنازعات التأديبية للعاملين على مستوى الحكومة الفيدرالية والولايات المحلية إلى المحاكم الإدارية ذات المستوى الأول، وتستأنف أمام المحاكم الإدارية من المستوى الثاني، وأصبحت المحكمة الإدارية الفيدرالية العليا هي المحكمة المختصة بابداء الكلمة النهائية في هذه الطعون كمحكمة قانون. وألغيت نهائيا المحكمة التأديبية الاتحادية. - وقد كان الدستور الألماني ذاته يسمح بهذا الإلغاء لهذه المحكمة، إذ أن واضعي الدستور الألماني لم يقرروا وضع هذه المحكمة على سبيل الوجوب، شأن سائر المحاكم الاتحادية الأخرى المشار اليها، بل جعلوا أمر إنشائها جوازياً، تقديريا بيد المشرع، وهو ما أعطى للمشرع الألماني حرية الحركة لتدارك هذه المسألة بإلغاء هذه المحكمة بعدما أثبتت التجربة العملية عدم جدواها ومن ثم عدم الحاجة لها. هل يوجد في ألمانيا الآن محكمة تأديبية ؟؟؟ - نعم يوجد كيان بهذا الاسم في ألمانيا الآن ، لكنه مؤسسة قضائية مهنية لمحاسبة المحامين عن سوء السلوك المهني بألمانيا، وأساسها القانوني المواد 92 -99 من القانون الفيدرالي الألماني للمحاماة، وجميع أعضائها من المحامين فقط. وهي في حقيقتها (مجلس لتأديب المحامين) ويوقع جزاءات محددة تبدأ بالإنذار، وتنتهي بالمنع من مزاولة مهنة المحاماة، وتُنظر الطعون على القرارات الصادرة منه أمام المحكمة الادارية العليا. - أما باقي المهن والوظائف في ألمانيا، فإن تأديبهم يخضع لاختصاص المحاكم الإداري الألمانية المحلية أو الفيدرالية، وتفصل فيه المحكمة الإدارية العليا في ألمانيا في نهاية المطاف باعتبارها منازعة بين الفرد والدولة الخلاصة: - لا توجد محكمة تأديبية على مستوى العالم منفصلة عن الجهة التي تتولى الفصل في المنازعات الإدارية (سواء كانت المحكمة الإدارية او مجلس الدولة بحسب الاحوال)، وما يُقال بخلاف ذلك غير صحيح، نتمنى ممن يدعيه أن يقيم الدليل عليه. - عندما أفردت الجمهورية الألمانية في نظامها القضائي محكمة تأديبية مستقلة عام 1967، عادت لتقرر إلغائها عام 2002 في ضوء ما ظهر لها من نتائج تقييم هذه التجربة لقصور المحكمة، وضعف اختصاصاتها، وقلة الدعاوى المعروضة عليها، لتدمجها مرة أخرى في اختصاصات المحكمة الادارية العليا بألمانيا. - وفي الختام، نتمنى عليكم أيها السادة الكرام أن تدققوا في المعلومات التي تلقونها إلى الجمهور عبر وسائل الاعلام، ومن المفهوم أن تحاول ان تفوز بقضيتك، ومن الانساني ان تحاول ان تصل الى ذلك بكل الوسائل. لكن تبقى قيمة قضائية هامة تعلمناها جيدا في مجلس الدولة، وهي أنه لا يُكتفى بنُبل القصد، ولكن يجب تحرى شرعية الوسيلة. فإذا كان من المهم أن تفوز بمعركتك، فيبقى الأهم منه أن تفوز بها بشرف وبصدق. وفق الله الجميع لما فيه خير البلاد والعباد وهدانا الى ما يُحب ويرضى