ربما لا يصح حصر قضية العلاقات مع إيران فى خلاف السنة والشيعة، ففى إيران كتلة سنية كبيرة، والطابع السنى هو الغالب فى دول العالم الإسلامى، وفى الأمة العربية بالذات، وهى قلب عالم المسلمين، وأمة القرآن بامتياز، وحاضنة «الأزهر» منارة المسلمين العلمية الكبرى، وقد أفتى الأزهر قبل خمسة عقود بجواز التعبد على المذهب الشيعى الجعفرى، تماما كمذاهب السنة الأربعة صحيح، أن بعض عقائد الشيعة مما يجرح نقاء العقيدة الإسلامية، لكن الدين الواحد يوحدنا، فقرآننا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا إلى الصلاة واحدة، ربما الفرق فى اعتقاد الشيعة بالإمامة النصية، وهو اعتقاد تاريخى بأكثر منه اعتقاد دينى، وأقرب إلى أسطورة صنعتها ظروف المطاردة المتصلة للشيعة من دول الخلافة الإسلامية، وهو ما ألجأ الشيعة إلى «التقية»، وإلى بناء عالم مواز حول فكرة الإمامة الشرعية، وخلق طبقة من رجال دين لا يعترف بها صحيح الاعتقاد الإسلامى، ثم إنه فاقم عادات مذمومة فى أوساط بعض الشيعة، كسب الصحابة أو ذم السيدة عائشة أم المؤمنين، وهى العادات التى يتبرأ منها عقلاء الشيعة، وتماما كما تبرأ منها الإمام على بن أبى طالب فى قولته الشهيرة خلال حروب الفتنة الكبرى، فقد قال الإمام العظيم واصفا حربه مع مخالفيه: «لقد التقينا، وربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة»، فلم يكن الخلاف دينيا أبدا، بل كان خلافا فى السياسة وشئون الحكم. والخلاف أو الاتفاق مع إيران يجب أن يكون سياسيا لا دينيا، ولا يقع فى خية سياسة «فرق تسد»، ولا ينزلق إلى مشاحنات مذهبية رذيلة، ومع الحرص العربى طبعا على الانتصاف لأهل السنة والجماعة فى إيران، وطلب المساواة الكاملة لهم فى حقوق المواطنة والاعتقاد والعبادات، ليس فقط لأنهم من السنة، بل لأن غالبهم عرب يعانون من التسلط القومى الفارسى، ويطمحون إلى التحرر من ربقة الاستيلاء على أراضيهم ومقدراتهم، ومحاولات محو هويتهم القومية، ومأساتهم أسبق بالطبع من نشوء الدولة الإسلامية الشيعية فى إيران، وتماما كمأساة استيلاء شاه إيران على جزر الإمارات العربية الثلاث، فالخلاف قومى وليس طائفيا، وهذه فيما نظن هى البوصلة الصحيحة، والتى تصحح النظرة للشيعة فى الدول العربية، فهم عرب قبل وبعد كل شىء آخر، فشيعة إمارات الخليج والسعودية عرب كالسنة تماما، وشيعة البحرين عرب، والشيعة فى العراق عرب عاربة لا مستعربة، وخطيئة إيران فى العراق هى التنكر لعروبة الشيعة فيه، والتعامل معهم كأنهم من رعايا دولة الفرس، وهو سلوك احتلالى وعدوانى بامتياز، أغرى به الفراغ الذى خلفه الغزو الأمريكى للعراق، واستمسكت به إيران لمنع نهوض العراق وتأكيد عروبته الجامعة من جديد، وإذا كانت السياسة الإيرانية «الإسلامية» تكثر من استخدام تعبيرات كالاستكبار والاستضعاف، فإن ما تمارسه إيران اليوم فى العراق هو استكبار وصلف استعمارى، وسحق لهوية شيعة العراق القومية العربية، وحجزهم بدواعى الذهب والسيف عن الالتحاق بثورة العراقيين الجارية، والهادفة لتحرير وطنهم، وإعادة بناء دولتهم التى حطمها الاحتلال، وبالطبع، فليس المجال هنا لمناقشة مصير ثورة العراق المنتصرة بإذن الله، بل لإيضاح الطبيعة القومية لا المذهبية للخلاف مع إيران، فهى أى إيران دولة الفرس لا دولة الشيعة، والمعروف أن إيران الحالية دولة متعددة القوميات، لا يشكل الفرس فيها سوى أربعين بالمئة من السكان، وهم يتسلطون على القوميات الاخرى فى إيران كالعرب والكرد والبلوش والأوزبك وغيرهما، لكن غالب أهل إيران من الشيعة دينيا، وهو ما يجعل من «التشيع» و«المذهبية الشيعية» عنصرا مفيدا فى التماسك الداخلى بأكثر من الإعلان الصريح للقومية الفارسية، أى أن القصة فى إيران اليوم لا تعدو جعل «التشيع» قناعا للتعصب الفارسى. نقول ذلك حتى يستبين المغزى القومى للتمدد الإيرانى، وفى ظروف فراغ موحش ساد المنطقة بعد انهيار المشروع القومى العربى قبل عقود، فقد تحولت المنطقة العربية طويلا إلى ما يشبه «الربع الخالى»، وتمدد المشروع الأمريكى الإسرائيلى مسيطرا فى العواصم وقصور الحكم، ولم يجد فى المقابل منافسا غير المشروع الإيرانى، والذى يلبس قناع التشيع، ويبدو مفيدا فى دعم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالقلب العربى، لكنه يبدو مدمرا عند الأطراف، وخاصة فى العراق المبتلى باحتلال إيرانى فعلى، وبتحكم طهران فى حكومة الدمى ببغداد، وهو ما لا تصح مواجهته بغير نزع القناع الطائفى، وإبراز الطابع القومى الجامع للسنة والشيعة العرب، وليس بالوقوع فى فخ تأجيج المعنى الطائفى المفتعل، ولا حل بغير أن تكف إيران عدوانها القومى الفارسى، وبالاختيار أو بالإجبار، فليس من مصلحة إيران على المدى المتوسط والبعيد أن تواصل سيرتها العدوانية فى العراق، أو أن تفرض الوصاية على سوريا، أو أن تجعل من القومية العربية الجامعة عدوا مستديما، خاصة أن شعوب الأمة العربية تستيقظ الآن، وتتوالى ثوراتها المأزومة فى المدى القريب، والمنتصرة بإذن الله فى المدى المتوسط والبعيد، وبعد أن تتخلص من شوائب طائفية علقت فى زمن المحنة العربية الكبرى، وتبنى مشروعها للنهوض والتوحد والاستقلال، فقد بدت صورة إيران مضيئة لسنوات، وكان السبب ظاهرا، فقد دخلت فى صدام مع المشروع الأمريكى - الإسرائيلى المسيطر، لكن نهوض مشروع عربى يجعل الأمر مختلفا، ويجعل إيران فى موضع الخاسر لو ظلت على سيرتها غير المكترثة بالعرب، ويخلق خصومة لا تفيد الفرس ولا العرب، فلا يضيرنا كعرب أن تكون إيران دولة قوية، وكل ما يضيرنا أن تكون دولة معتدية على حقوقنا، ولو كفت إيران عدوانها المتصل فى العراق بالذات، فسوف تجد ظهيرا شعبيا عربيا لحقوقها كدولة جوار جغرافى وامتداد إسلامى، فلا أحد ينكر أن إيران الإسلامية حققت تقدما هائلا فى المشروع النووى والصناعات العسكرية بالذات، ولا أحد ينكر أنها حققت تطورا علميا ممتازا، وبفضل التخطيط الاستراتيجى السليم، وتوافر الموارد المالية الكبيرة، وهو ما قد يصح أن تهتدى به أقطار عربية وقعت فريسة التخلف، لكن نظام الحكم فى إيران مما لا يصح أن يهتدى به أحد، وتغييره مسئولية الشعب الإيرانى وليس مسئوليتنا، تماما كما أنه ليس من حق طهران توجيه النصح لثوراتنا الفريدة، فثورات العرب الجديدة شىء مختلف بالجملة عن ثورة إيران القديمة. نشر بتاريخ 25/2/2013 العدد 637