لا يبدو أن «عاصفة الحزم» ولاحقتها «إعادة الأمل» حققت نجاحا يعتد به فى اليمن، اللهم إلا فى تقليم أظافر الحوثيين الطويلة، وقطع خطوط الإمداد الإيرانى بالحصار الجوى والبحرى الذى شاركت به مصر، ودون أن تتعداه إلى مشاركة فى حرب برية لا نفع فيها. ومن حق السعودية بالطبع أن تحمى كيانها، وهذا ما تؤيدها فيه مصر بلا تحفظ، لكن المعضلة تبقى فى اليمن ذاته، وفى تفاعلاته الداخلية الخطرة، وفى الآثار الكارثية التى يخلفها استمرار الصراع على أرضه، فقد يكون الحوثيون قوة رجعية متخلفة، وهم أبناء أفقر مناطق اليمن الفقير أصلا، والبيئة الصعبة لمناطقهم الجبلية الشرسة، ربما لا تبقى لهم من مهنة لكسب العيش غير الحرب، وهو ما يفسر إجادتهم لحرب العصابات، ومقدرتهم الواسعة على تعبئة قبائل أقصى شمال اليمن، ودفعهم إلى "تجريدة" مسلحة على مناطق الوسط والجنوب، مدعومون بفيض أسلحة متطورة وتدريب إيرانى، وبالتحالف مع جماعة على عبد الله صالح، والتى تسيطر لاتزال على أغلب قطاعات الجيش اليمنى المتآكل، وهو ما يجعل توازن الحرب والسلاح لصالح الحوثيين وجماعة الرئيس المخلوع، خاصة مع استنفار قدر من التعبئة الشعبية ضد ما أسموه بالعدوان السعودى الأمريكى. وعلى الجانب الآخر، لايبدو الجهد الميدانى الرئيسى لقوى أقل رجعية وتخلفا من الحوثيين، صحيح أن أحزابا من نوع التنظيم الناصرى والحزب الاشتراكى موجودة فى الصورة، وهى قوى وطنية تقدمية بامتياز، ولها تاريخها المضىء فى إقامة الجمهورية اليمنية الأولى وتحرير الجنوب، ووجدت فى فئات شباب الثورة اليمنية سندا لها، غير أن هؤلاء جميعا جرى تهميشهم، وسحب أدوارهم إلى الظل مع ما أسمى "المبادرة الخليجية"، والتى استهدفت إجهاض الثورة الشعبية ضد على عبد الله صالح، وحفظت للرئيس المخلوع حصانته وثروته المنهوبة المقدرة أمميا بستين مليار دولار، وأعطته نصف الحكومة وأغلبية البرلمان الانتقالى، ووضعت نائب صالح المهزوز عبد ربه منصور هادى على مقعد الرئاسة، ومنحت جماعة الإخوان (حزب التجمع اليمنى للإصلاح) ثانى أكبر نصيب فى الكعكة بعد جماعة صالح، فيما استبعدت الحوثيين تماما، ومع تهميش الناصريين والاشتراكيين وشباب الثورة الجديدة. وكانت الصيغة الملغومة هى السبب فى انفجارات اليمن الحالية، والمتلاحقة بظواهرها المدمرة على مدى الشهور الأخيرة، والتى دفعتنا إلى المأزق الراهن، والذى لا يتصور أحد معه وجود حل عسكرى ناجز على الأرض، خاصة مع استبعاد التدخل البرى العربى، واستمرار الصراع بالقوى اليمنية الذاتية، وفيما يشبه الحرب الأهلية متخفضة المستوى، والتى تتواجه فيها قوة الحوثيين مع قوى أكثر رجعية وتخلفا، فليس للتقدميين كالناصريين والاشتراكيين وشباب الثورة أجنحة عسكرية، والذين يقاتلون الحوثيين وجماعة صالح ليسوا "مقاومة شعبية" إلا فيما ندر، فهذه المقاومة التى يصح وصفها بالشعبية مقصورة على مدينة "تعز"، وهى المدينة الأكثر تفتحا وتحضرا فى اليمن، بينما مناطق الوسط والجنوب الأخرى، تسودها قوى مسلحة رجعية وانتهازية بامتياز، ميليشيات قبلية تحارب بالأجر، ولا تثبت عمليا فى المواجهات المميتة مع الحوثيين، ولا يبقى فى الميدان طرف يحارب بنفس سياسى، سوى فى عدن وجوارها، وحيث توجد فصائل مقاومة "جنوبية" لا شعبية تريد إعادة فصل الجنوب عن اليمن، فى حين هربت ميليشيات الإخوان إلى فنادق الرياض واسطنبول، وتركت ساحة الحرب خالية لحلفائها من "القاعدة" و"داعش" وأخواتها، والتى سيطرت بالكامل على "المكلا" كبرى مدن "حضرموت" أوسع محافظات اليمن جغرافيا. والمحصلة، أن الوضع فى الميدان شىء، والوضع فيما يسمى "مؤتمر انقاذ اليمن" بالرياض شىء آخر، فليس للرئيس هادى ولا لحكومته المنفية ظل يعتد به على الأرض اليمنية، وقد لا يكون بوسع الحوثيين التقدم إلى انتصار نهائى كاسح، ولا إلى نهاية يستقر بها اليمن تحت حكمهم مع حليفهم على صالح، خاصة أن الأخير مستعد لبيع أمه فى سوق النخاسة، ومد الجسور ثانية إلى داعميه السعوديين التاريخيين، لكنه ليس مستعدا للتسليم بشرعية هادى المنقلب عليه، ولا هو قادر على الفك النهائى لتحالفه مع الحوثيين، فقد أصبح للحوثيين الكلمة العليا فى التحالف الحربى، وبوسعهم أن يقنعوا أطرافا عربية ودولية بجدوى دورهم فى مطاردة وهزيمة جماعات الإرهاب، فقد يكون الحوثيون خطرا على السعودية، لكن الإرهابيين خطر أكبر على المنطقة كلها، وخطر أكبر على السعودية نفسها. ولاحل ممكنا فى اليمن سوى بسياسة جديدة، لايترك فيها الأمر والنهى للسعودية وحدها، ولا لحلفاء السعودية التقليديين من نوع جماعة الإخوان ومشيخات القبائل المشتراة بدفاتر الشيكات، ولا لمناورات صالح الذى يلعب بالبيضة والحجر، ويناور لتعويم نفسه وعائلته، ولا بد من وقفة تمنع الانزلاق إلى فشل أكيد، وتقوم فيها القاهرة بدور منسق مع السعودية، فالقاهرة هى التى وضعت تاريخيا حجر الأساس للجمهورية اليمنية، وواجبها السياسى والأخلاقى أن تنهض بدور ينقذ اليمن، نقطة البدء فيه هى عدم استبعاد الحوثيين، والاعتراف بهم كمكون أصيل من الشعب اليمنى، وضمان دور لهم فى معادلة حكم متوازن، لا تتعسف فى فرض رئاسة هادى بشرعية موهومة، وربما يكون البديل الملائم فى شخص "خالد بحاح" رئيس الحكومة ونائب هادى حاليا، وهو شخصية مقبولة من أغلب الأطراف اليمنية، وعلى أن يكون بحاح رئيسا مؤقتا، ولمدى زمنى محدود يتفق عليه، يجرى فيه تشكيل حكومة وطنية جامعة، وسحب السلاح من المدن، وإعادة هيكلة الجيش اليمنى، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وبضمانة قوات حفظ سلام عربية غير سعودية وغير خليجية، ومع الإعداد لإجراء انتخابات عامة، يختار فيها الشعب اليمنى رئيسه وبرلمانه، ويستأنف حياته الطبيعية، ويحارب جماعات الإرهاب التى تمددت وتوحشت فى سياق الانفلات والحرب المفتوحة، ويقنع الجنوبيين بمزايا البقاء فى كيان اليمن الموحد، وما من سبيل آخر لمنع الانزلاق إلى يمن يتفكك بلا عودة.