أتذوق الرسم بالزيت كما يتذوق المتفرج فيلما سينمائيا بالانطباع فقط لا غير. فلا أعرف ولا أفهم قواعد الرسم ومدارسه، من التجريدى إلى التكعيبى والكلاسيكى.. لكنى أقف احتراما واندهاشا أمام لوحة مثل الموناليزا لدافنشى أو رسومات الفنان الإيطالى مايكل أنجلو وشخوصه التى نحتها، ووقف يوما أمامها مستغرقا فى خطوط العروق لعل الدماء تسير بها.. فالإبداع الذى أظنه يكمن فى قدرة الفنان على طبع الصورة التى تراها العين فوق تلك المسطحات البيضاء، بجانب عبقرية اختيار الألوان ومزجها. لكن تلك الرسومات الإبداعية الصعبة التى يختار منها المتلقى ما يفهمه ويختاره وفقا لحالته النفسية أو تبعا لوجهة نظره، مسألة تفوق قدراتى الفنية، فكيف يرى شخص لوحة ويصفها بأنهاتعبر عن الفرح فترتسم ابتسامة على وجهه. بينما يراها شخص آخر يقف بجواره تعبر عن الحزن وتفر دمعة من عينيه، وهذا بالطبع تبسيط أريد به أن أنقل ما أفهمه. وأتذكر هنا فيلم عادل إمام «عريس من جهة أمنية» عندما شاهد لوحة فوق الحائط ولم يستوعب هل هى مقلوبة أم فى وضعها الصحيح؟!. ولا أتذكر متى شاهدت فنانا مصريا كبيرا ومشهورا جدا وهو ضيف حلقة تليفزيونية، وقد سألته المذيعة: سيادتك.. كيف ترسم؟!. شمر الفنان الكبير عن ساعديه، ووضع يده فى إناء (جردل) به ألوان يشبه إناء الأيس الكريم. وأدخل يده وسحب كبشة ألوان ثم انسحب قليلا إلى الخلف، ووجه نظرة ثاقبة إلى مستطيل اللوحة الأبيض، ثم قذفه بالألوان التى بيده. وكرر الأمر عدة مرات.. وفى كل مرة لون مختلف مسحوب من جردل. ونظرة ثاقبة كأنه ينشن على موقع فى اللوحة، ثم قذف بالألوان من مسافة.. وعندما انتهى من تلك المهمة بدأ الفنان الكبير، وهو كبير بحق، وأنا المتذوق الصغير، بدأ فى مزج الألوان التى ألقى بها على سطح اللوحة، وفعل ذلك بعصبية شديدة، وعندما انتهى سألته المذيعة التى كانت منبهرة بخطواته : ماذا رسمت.. سيادتك؟! أجاب: «مش عارف»؟!. عند نهاية هذا البرنامج الذى شهد كل ألوان النفاق بالانبهار والدهشة من المذيعة، قلت إن الرسم سهل للغاية، فأى إنسان يستطيع أن يلقى بشوية ألوان نحو حائط وينتج شكلا لا يمكن فهمه، ويصفه بأنه فن ويبيعه بألوف الجنيهات ويكسب منه ثروة طائلة. وكان ذلك جهلا فظيعا منى. إلا أنى قمت بشراء كل أدوات الرسم وأسلحته. وعجزت عن إبداع لوحة واحدة حتى اليوم. وقد مضت على الفكرة والمحاولة 15سنة.. وهذا من حسن حظ فن الرسم والمبدعين.. لماذا أتحدث عن الرسم الآن؟ المناسبة أنى قرأت خبرا بثته وكالة الأنباء الفرنسية، يفيد بأن مؤسس الرايخ الثالث هتلر و«مبدع» الحرب العالمية الثانية التى دمرت ألمانيا وأودت بحياة الملايين، قرأت أن هتلر أصابته نفس الحالة التى أصابتنى ورسم عدة لوحات، ومنها 21 لوحة رسمها هتلر فى شبابه، وبيعت فى بريطانيا عام 2006 بحوالى 140 ألف يورو كما بيعت 13 لوحة أخرى بمبلغ 108 آلاف يورو. وسوف يقام فى مدينة نورمبرج فى الشهر المقبل مزادا لبيع ثلاث لوحات إلى هتلر رسمها فى الفترة من 1910 إلى 1911 فى دار فيدلر للمزادات. وواحدة من اللوحات لطاحونة مصابة بوابل من الرصاص، والثانية لمدينة فى النمسا، والثالثة لمنزل مع جسر مقام على نهر.. هتلر حاول فى شبابه كما جاء فى الخبر، أن يلتحق بأكاديمية فيينا للرسم، لكن طلبه رفض بسبب افتقاره للموهبة.. ولعل ذلك يكون أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، فهو ربما قام بغزو النمسا ودخلها ليمتلك أكاديمية فيينا كلها.. إلا أنه من المدهش أن تباع لوحات رسمها هتلر بأسعار زهيدة، وهو كان غبيا، حيث كان عليه أن يبيع لوحاته وهو يحتل ألمانيا بصفته القائد والزعيم، كى تدر عليه ملايين الدولارات، فرسومات الزعماء والحكام والحكومات تساوى ثروات بالنفاق قبل الإبداع. فهنا لا يباع عمل فنى راق بقدر ما يباع ما يبدو أنه تذكار من رجل مجنون دخل التاريخ من بابه الخلفى.. وفى أحيان كثيرة نرى لوحات لا تساوى من الناحية الفنية أى شىء، لكنها تساوى باسم راسمها ومكانته.. فلو كانت رسمت أم كلثوم مثلا لوحة فنية، فإنها ستباع بمبلغ كبير لأن المبدعة هى أم كلثوم وليس للقيمة الفنية للعمل.. وهذا هو الفارق بين فان جوخ وبيكاسو ومايكل أنجلو وصلاح طاهر و.. وبين هتلر وأمثاله من الزعماء وأصحاب المناصب الرفيعة و.. ربما أمثالى أيضا الذين وقفوا عند حافة محاولة الرسم وفشلوا فشلا ذريعا.. فى إبداع خط واحد.. وأنتهى بسؤال إلى الفاهمين والمتخصصين: كيف يكون الإنسان فنانا عاشقا للرسم أو موهوما بموهبته.. وفى الوقت نفسه قاتلا مجنونا ومدمرا لنفسه وللناس وللبشرية مثل هتلر؟!.