بعد نشر جريدة «الشروق» لمقال يضم عرضا لسيرتها الذاتية المؤلمة «أثقل من رضوى»، حاولت الاتصال بها اهتماما بالتعرف على رد فعلها الثرى بطبيعة الحال، وعندما فشلت خاطبتها عبر بريدها الإلكترونى، الذى كانت شديدة الحرص على متابعته يوميا، فإذا بها ترد بكلمات ثناء رقيقة، وكلمات موجعة تذيلها «غادرت القاهرة قبل حوالى 3 أسابيع لإجراء جراحة جديدة.. جراحة أكبر هذه المرة وتعقيداتها اقتضت تواجدى فى العناية المركزة لفترة طويلة سأتصل بك ما إن أعود إلى القاهرة وسأعود ما إن يسمح لى الطبيب بذلك». تاريخ الرسالة كان قبل عام بالتقريب، عام كامل قضته رضوى عاشور على هذا الحال الذى ذكرته فى سطورها القليلة السابقة، حتى وافتها المنية فى بلدها، مع أمنية أخيرة لم تتحقق بتشييع جثمانها من مسجد عمر مكرم، بسبب إغلاق ميدان التحرير، الذى احتل فى سيرتها الذاتية نصيبا وافرا من الاهتمام، وهى تتذكر اندلاع ثورة يناير، وهى فى منفاها الإجبارى بالولايات المتحدةالأمريكية رهن فراش المرض. يبدو الآن أن سيرتها الذاتية «أثقل من رضوى»، دار الشروق 2013، كانت المأدبة التى قررت رضوى أن تجمع حولها أحباءها تمهيدا لرحيلها، الذى كانت تعلم بحدسها أنه سيكون بالغ الألم، فاستبقت الألم بوقفة «لا أحتاج فى حالة كتابة السيرة، الصريح الذى أكتبه سوى النظر حولى وورائى وفى داخلى لأرى أو أتذكر» تقول صاحبة السيرة. السيرة الذاتية لرضوى عاشور، برغم ما يعج فيها من حكايات عن المرض، وعمليات جراحية صعبة، ولحظات ضعف، إلا أنها فى مجمله معركة تفاؤل تطل بوجه صبوح، معركة تصلح لأن تقتدى بمفرداتها النضالية «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا». دفع رباعى أتبعت رضوى تمهيدها للفراق بحفل توقيع استضافته مكتبة «الشروق» بالزمالك نوفمبر العام الماضى، الذى كانت باقات الورد اللانهائية آنذلك شاهدة على الاحتفاء بعودة رضوى عاشور من رحلتها العلاجية الطويلة، كان حفل توقيع شديد الوقع على القلب، أكثر من كونه حفل توقيع يؤذن بصدور كتاب جديد، كان تلاميذ رضوى فى مقدمة الحضور، حضروا بكل عفويتهم وإخلاصهم النقى، الذى دفع بعضهم لشراء «الدباديب» والألعاب الطفولية لأستاذتهم التى كانت تتلقى تلك الهدايا بضحكات من الأعماق، حضور أصدقائها من المثقفين كذلك كان شديد الوهج، منهم الشاعر الكبير أمين حداد الذى جلس إلى جوارها فى المنصة واصفا «أثقل من رضوى» ب«آلة ذات دفع رباعى، بدءا من رضوى عاشور الأديبة التى أثرت حياتنا الأدبية منذ اواخر السبعينيات، إلى رضوى الأستاذة الجامعية التى تخرج على أيديها أجيال وأجيال، وأصبح أغلبهم من مريديها بعد ذلك، وكذلك المناضلة التى لم تتنازل ولم تدخر جهدا لمقاومة الظلم والاستعمار وإسرائيل ودافعت عن استقلال الجامعة، وأخيرا دورها كزوجة وأم لأسرة حجزت فى المكتبة العربية عشرات الكتب الأدبية بمختلف أصنافها». كما ربط حداد بين قيام رضوى بجراحة صعبة وقت الثورة وهى خارج الوطن بالجراحة الصعبة التى كانت تقوم بها مصر منذ اندلاع ثورة يناير،وتوقف عند تلقائية رضوى فى الكتابة، وقدرتها على خلق مساحات لمن حولها كى ينطلقوا ويبدعوا، مستشهدا ببيتها الذى خرج منه اثنان من أكبر وأهم شعراء العرب علاوة على تلاميذها الذين تفوقوا فى مجالات إبداع مختلفة. الجبل للمرء نصيب من اسمه، اختار اسمها جدها لأمها على اسم جبل «الرضوى» الكائن بالقرب من المدينةالمنورة، وهو الذى كان العرب يضربون به المثل فى الرسوخ فيقولون «أثقل من رضوى» تتوارى على مدار السيرة الذاتية قصة الجبل، تتماهى فى قصة رسوخ موازٍ بطلته سيدة «تستيفظ فى الصباح مرهقة كأنها فى نهاية يوم عمل مضن، تظن أنها غير قادرة على مغادرة الفراش والذهاب إلى عملها، ولكنها فى نهاية المطاف، تقوم وتستعد للخروج إلى العمل وتخرج، تذهب إلى الجامعة تدرس، تحتفى بطلابها وزملائها، تبدو مشرقة ومقبلة، تمنح الأمل، كأنما بدأت يومها بقطف ثماره وأودعتها سلتين كبيرتين خرجت بهما لتوزيع ما فيهما على من يطلب ومن لا يطلب». يزحف شريط الفيلم للوراء، تشاهد طفلة تنتقل مع والدها المحامى وأمها وشقيقها الأكبر طارق ابن الأربع سنوات إلى منزلهم الجديد الذى يطل على النيل وكوبرى عباس «سأتعلم المشى والكلام فى هذه الشقة، وأتحول من طفلة تحبو أو تتعثر فى خطواتها الأولى إلى تلميذة فى الحضانة ثم فى المرحلة الإبتدائية تحمل حقيبة بها دفاتر وكتب وأقلام».. رضوى الطفلة أصبحت الآن سيدة ستينية على فراش بارد، يغزوه بعض الدفء إذا ما زارها طيف أمها «مية».. ذكريات بعيدة تلك التى تغترفها رضوى من وهج أمها الساكن بقلبها، هذه الأم المرهفة الحس، التى كانوا ينادونها ب«ماما مية»، استبدلت ميولها الفنية المبكرة سواء فى الرسم أو نظم الشعر وعزف البيانو بالاهتمام بأناقة صغارها.. فعلت ذلك وهى راضية مرضية، لم تخف الأم دهشتها وهى ترى رضوى تتجه لطلة صبيانية وهى فى مطلع مراهقتها متمردة على مظهر الدمية الذى كانت تتفنن «مية» فى تنقيحه كل يوم، تستدعى رضوى تلك المشاهد وتتوقف فجأة عن الحكى «فى ضوء هذا الاهتمام بشكلى وملابسى وقناعة أمى العميقة أن الله منحها ابنة «حلوة» ستفهم يا سيدى القارئ تخيلى لبكائها وقد أعمل الجراحون مشارطهم فى رأس ابنتها وساعدها وفخذها، بعد أن أعملوه سابقا فى أماكن أخرى من بدنها، بما يشوه المنتج الأصلى ويغير من ملامحه»، لا حظ هنا استخدام رضوى لعبارة «المنتج الأصلى» فى متن كل مأساوية المشهد لتتعرف أكثر على ملامح الكاتبة التى دأبت على محاربة الألم بكثير من الإشراق ولو كان بالسخرية أو باستعارة منطق «comic relief» الذى يعرفه أهل الأدب والمسرح جيدا، وعلى حد تعبيرها الساخر أيضا بمثابة «فاصل من النكد»! «أثقل من صدري» كانت مأدبة وداع لمحبيها تمهيدا للفراق هرمنا تقاطعت فى سيرة رضوى عاشور تجربتا المرض والثورة، تراها تستقبل زلزال الثورة التونسية وهى لا تزال رهينة المشرط «تصادف إذن أن أكون فى مسرح العمليات بين أيدى جراحين يُعملان مشارطهما ومعارفهما فى رأسى، وتونس تشتعل بعد أن أحرق البوعزيزى نفسه»، عز عليها كثيرا أن تكون فى بلد بعيد يصعب أن تجد فيه قناة إخبارية تواكب تفاصيل ما يحدث، عز عليها أنها لم تستطع أن تستمع جليا لذلك الهتاف الأثير «الشعب يريد إسقاط النظام». «اليوتيوب»، مرسال الثورة بالنسبة لرضوى فى قارتها البعيدة، ربما تبكى وأنت تشاهدها تتابع صاحب ملحمة «هرمنا»، تقول «أنا رضوى بنت مية ومصطفى، المرأة الستينية التى هرمت من أجل لحظة من هذه النوع». تتابع تمهيدها المدهش لثورة 25 يناير «حتى دخلت إلى فراشى ليلة 24 يناير لم أكن أفكر فيما يحدث غدا» تمر ساعات قليلة، مع مراعاة فروق التوقيت بين القاهرة وواشنطن، تروى «حين غادرت فراشى، وجدت تميم مستيقظا كان يجلس بجوار أبيه كلُ أمام كومبيوتره، صاحا فى صوت واحد متهلل: حصل! مريمة تناغُم سيرة رضوى عاشور بين الحكى العفوى والسرد التاريخى والتكوينات الإنسانية المتداخلة، ليس غريبا على عالم رضوى الإبداعى ومشروعها الكتابى، الذى كان فى مجمله صيحة تحرر إنسانى. استدعت رضوى رائعتها « ثلاثية غرناطة» التى انتهت بالمقولة الآسرة «لا وحشة عند قبر مريمة»، استدعاء وإحالة لعالم بطلتها «مريمة»، التى خصصت جزءا كاملا من ثلاثيتها باسمها (غرناطة مريمة الرحيل)، «مريمة» المفعمة بالحكايات، والمسكونة بثنائى الحكمة والضمير الحى، مريمة التى عاشت منسية وماتت حسرة خلال ترحيل العرب من غرناطة «قام على، أدار ظهره للبحر، وأسرع الخطى ثم هرول ثم ركض مبتعدا عن الشاطئ والصخب والزحام.. التفت وراءه فأيقن أن أحدا لم يتبعه، فعاد يمشى بثبات وهدوء، يتوغل فى الأرض، يتمتم: لا وحشة فى قبر مريمة!» يتمتم على، وتردد رضوى فى «أثقل من رضوى» الوصية قبل الرحيل «أنا مُدرسة، أرى فى رسائل التشاؤم فعلا غير أخلاقى، قلت ذات مرة إن كل كتاباتى الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة، قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية.. أنهيت رواية «ثلاثية غرناطة» بعبارة «لا وحشة فى قبر مريمة» وعلقت فى محاضرة لى على ذلك قائلة: ثلاثية غرناطة لها طعم المراثى، يسرى فيها خوف امرأة من القرن العشرين، دارت عليها وعلى جيلها الدوائر، فشهدت نهايات حقبة من التاريخ هو تاريخها، ولكن التاريخ لا يعرف الخوف، إنه صاحب حيلة ودهاء، له مساربُه وديامسُه ومجاريه، لا شىء يضيع، هكذا أعتقد، ولذلك أفهم الآن لماذا تنتهى روايتى بوصف قبر مريمة».