رحلت رضوى عاشور.. رحلت بجسدها وروحها لكنها تركت إرثا سيحفظه التاريخ، ليس إرثاً ثقافياً فقط، بل هو إرث إنسانى من الصعب أن تصفه الكلمات، هل يمكن أن نُعَّرِّف رضوى بأنها ولدت يوم كذا ورحلت عن عالمنا يوم كذا عن سن يناهز كذا أو أنها كتبت كذا وأصدرت رواية كذا؟... لا أعتقد أن ذلك سيكون مجدياً، فالراحلة لم تكن إنسانة عادية لكى نعرِّفها للقارئ بطريقة عادية، إنها رضوى أيها السادة، عرَّفها ابنها الشاعر تميم البرغوثى بقوله: لكني عارف بإني ابن رضوى عاشور أمي اللي كان حَمْلَها ما ينحسب بشهور الحب في قلبها والحرب خيط مضفور ..... تكتب في كار الأمومة م الكتب ألفين طفلة تحمّي الغزالة وتطعم العصفور .... وأمي حافظة شوارع مصر بالسنتي تقول لمصر يا حاجّة ترّد يا بنتي تقولها احكي لي فتقول ابدأي إنتي هل هناك تعريف برضوى أفضل من ذلك؟ نعم.. فإن رضوى لم تكن بحاجة لمن يتحدث عنها حتى لو كان ابنها، فلنترك رضوى تتحدث عن نفسها... قالت فى “أثقل من رضوى”: “.. وأنا محاصرة بين جراحة تمت وجراحة على وشك، ومستقبل معلق على احتمالات متفاوتة قد يكون الموت أبسطها، لا أملك سوى تسليم أمرى إلى الله ومواصلة الحياة بعادية، لأننى لست من جنس الأرانب ولا الفئران، بل مخلوق آدمى طوَّر على مدى آلاف السنين شيئاً ثميناً اسمه الكبرياء”. وقالت أيضاً: “أنا مدرسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلًا غير أخلاقي. قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة. قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة مَنْفِيَّة. أنهيت رواية “ثلاثية غرناطة” بعبارة. “لا وحشة في قبر مريمة” وعلقت في محاضرة لي على ذلك قائلة: ثلاثية غرناطة لها طعم المراثي، يسري فيها خوف امرأة من القرن العشرين دارت عليها وعلى جيلها الدوائر، فشهدت نهايات حقبة من التاريخ هو تاريخها. ولكن التاريخ لا يعرف الخوف، إنه صاحب حيلة ودهاء، له مساربه وديامسُه ومجاريه، لا شيء يضيع، هكذا أعتقد. وفى فقرة أخرى تقول: «الحياة في نهاية المطاف تغلب، وإن بدا غير ذلك. والبشر راشدون مهما ارتكبوا أو اضطربوا أو تعثرت خطواتهم. والنهايات ليست نهايات، لأنها تتشابك ببدايات جديدة.» وقالت فى “صيادو الذاكرة”: أكتب لأننى أحب الكتابة، أقصد أننى أحبها بشكل يجعل السؤال “لماذا؟” يبدو غريباً وغير مفهوم. وقالت أيضا: «عندما غادرت طفولتي، وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي، وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت، ولكني بعد بكاء وتفكير أيضًا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة”. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: (ماذا لو أن الموت داهمني؟) ساعتها قررت إنني سأكتب كي أترك شيئًا في منديلي المعقود” وقالت فى «الطنطورية»: «هل أحكي حياتي حقًّا أم أقفز عنها؟ وهل يمكن أن يحكي شخص ما حياته فيتمكن من استحضار كل تفاصيلها؟ قد يكون الأمر أقرب إلى الهبوط إلى منجم في باطن الأرض، منجم لابد من حفره أولاً قبل التمكن من النزول إليه. وهل بمقدور فرد مهما بلغ من قوة ونشاط أن يحفر بيديه المفردتين منجمًا؟! المهمة شاقة تتولاها أيد كثيرة وعقول وروافع وجرافات ومعاول للحفر وأخشاب وحدائد ومصاعد تهبط إلى الباطن تحت أو تُعيد من نزلت به إلى ظاهر الأرض. وقالت فى «ثلاثية غرناطة»: “يقررون عليه الرحيل. يسحبون الأرضَ من تحت قدميه. ولم تكن الأرضُ بساطاً اشتراه من السوق، فاصل فى ثمنه ثم مد يده إلى جيبه ودفع المطلوب فيه، وعاد يحمله إلى داره وبسطه وتربع عليه فى اغتباط. لم تكن بساطاً بل أرضاً، تراباً زرع فيه عمره وعروق الزيتون. فما الذى يتبقى من العمرِ بعد الاقتلاع؟ .. في المسا يغلقُ باب الدارِ عليه وعلى الحنين .. تأتيه غرناطة .. يقولُ يا غربتي! راحت غرناطة .. يسحبونها من تحت قدميه، ولم تكن بساطاً اشتراهُ من سوق بالنسبة الكبير”. رحمك الله يا رضوى.. حتى الكلام عنك بعد رحيلك لم تحملينا كلفته.. رحمك الله.